بينما تقتحم الشرطة شقق ناشطين في وسط البلد قبل ذكرى 25 يناير، يجوب حازم ودلال شوارع وسط البلد والمنيل والدقي ذهابًا إيابًا. في جيب حازم «درايف» به مواد قد تُستغل ضده إذا قُبض عليه. هو يشعر بالبرد والانهزام، وحين تدهس سيارة مسرعة قطة يُعجل لنجدتها، ولكنها تحتضر بين يديه. والمواساة الوحيدة التي قد تنقذه متمثلة في دلال التي ستغادر القاهرة إلى نيو يورك بعد أيام.
هذا المشهد ليس مأخوذًا من فيلم محمد الحاج الجديد، وإنما من مجموعة قصصه الأولى: لا أحد يرثي لقطط المدينة، التي فازت يناير الماضي، بجائزة ساويرس لأفضل عمل قصصي فئة الشباب، وتدور عن ستة رجال وسيدات مختلفين، إما مرتبطين أو متزوجين، يمرون بأزمات عاطفية على خلفية مناخ سياسي مضطرب.
بعد كتابة سيناريو فيلم «فيلا 69» (2013)، الذي نال جائزة لجنة التحكيم فى مهرجان «أبو ظبى السينمائي الدولي» في نفس العام؛ توقع كثير من النقاد أن يقدم الكاتب الشاب (1986) فيلمًا تلو الآخر للسينما المصرية. إلا أن الحاج ولحسن حظ القراء الشغوفين بالأدب، سرعان ما اصطدم بعراقيل صناعة السينما المألوفة، سواء كانت تمويلية أو فنية، فصب إبداعه في كتابة القصة.
ولدت مجموعته القصصية الأولى «لا أحد يرثى لقطط المدينة» في نهاية صيف 2013، التوقيت الذي عُزل فيه الرئيس محمد مرسي واقتحمت قوات الأمن ميدان رابعة العدوية لإخلائه من المعتصمين المؤيدين لمرسي، ما أسفر عن مقتل المئات.
مع كل صفحة من مجموعة الحاج، يغمر القارئ الإحساس بمدى فداحة الخسارة الشخصية والسياسية لأبطالها العالقين في مدينة القاهرة التي تبث في أرواحهم مشاعر متناقضة بالخوف والأمل. يقع كثير من أحداث القصص في شوارع الزمالك والمعادي ووسط البلد والدقي، وقد ذكرني أبطال القصص بقطط ضالة تجوب فيها تائهة ومثقلة بحنين الذكريات والندم والعشق.
يتراوح أسلوب الحاج في الكتابة بين استخدام جمل قصيرة يصف بها المشهد والأحداث وبين تأملات مطولة شاعرية محملة بطبقات من المعاني المحتملة، يكونها بحرص في عالم القصة القصيرة المحكم، حيث تحسب كل كلمة. في بعض المشاهد، يقتاد الحاج القارئ من خلال عدسة أدبية، ككاميرا فيلم تقدم مشهدًا بدقة، دون إسراع أو مماطلة، لتفصِح الصورة مع الكلمة عن مشاعر وأفكار الأبطال الهاربين إما من علاقة أو ثورة فاشلة.
في القصة الأولى «يوم مع تونة»، يطلب طارق الذي يتوقع أن يستغني عنه مديره وصديقه؛ حماته تونة بالخطأ. كما هو متوقع ينتهي به الأمر بقبول دعوتها للعشاء. بالتالي يفتح على نفسه خزينة من المواجع، خاصة حين تظهر طليقته ويجد نفسه يحن بارتباك إلى ماضٍ منحسر في ذكريات مناقضة لما وقع بالفعل. يخيل لأبطال الحاج أن علاقاتهم أو ثورتهم أو حياتهم كادت أن تنجح وتتغير للأبد لولا حدث فارق وظالم لم يتوقعوه، فيعاودون التساؤل: ماذا لو؟ ماذا لو لم تسحق أحلامهم؟ ولكن يتساءل القارئ بفضل الكاتب لو كانوا يومًا قريبين من تحقيق أحلامهم بالفعل، أم أن مثاليتهم البريئة حجبت عنهم دلائل الآمال الكاذبة. يفتح الحاج مجالًا للنقاش بطرحه عدة أسئلة غير مباشرة، لا يكف أبطاله عن سعيهم ليجدوا إجابة عنها: ما مدى مسؤوليتهم عن إخفاقهم؟ هل بإمكانهم البدء من جديد؟ ولماذا لا زالوا يحنون للماضي؟
في «الثلاثاء 2 ظهرًا» تعود سناء، البالغة من العمر 35 عامًا، إلى الشقة التي سكنتها في يوم مع زوجها السابق. تجتاحها نوستالجيا عارمة وهي تلملم أغراضها، فتتذكر كيف وقعت في غرام طليقها أيام الثورة. يسلط الحاج آشعة سينية على مخاوفها وأسرارها وآمالها في استعادة العلاقة، قبل أن يحطم آمالها وآمال القارئ المتعاطف معها بقسوة كبيت من الرمال. في ضوء الاختلافات الجوهرية بينها وبين زوجها، لا يسع القارئ سوى التساؤل ما إذا امتلكت هذه العلاقة أي فرص للنجاح من البداية.
تدور «هنا وهناك» حول عيشة، وعلاقتها بعمر الذي قابلته على «تيندر» –موقع يسهل تعرف الرجال والنساء على بعضهم. منذ ثلاثة شهور وهي تعاشره جسديًا دون أن تعرف حقًا من هو.
«كانت تمر أحيانًا من تحت بيته في طريقها للخروج من المعادي أو في طريقها للعودة إليها فيخطر لها أن تصعد بلا تحذير لتطلع إلى ذلك المكان الذي لم تدع إليه أبدًا.»
تشبه قصة عيشة مع عمر لعبة القط والفأر، دون أن يحدد الحاج من فيهما الصياد ومن المطارد. فطلاقها المؤلم جعلها حريصة ومتشككة في التعامل مع الرجال. حين تنغمس أكثر في حياة عشيقها يغلبها وسواسها بتوقع الرفض والذكورية، فلا يسعها التخلص من الصور المسبقة، وتغلبها فكرة أن الوحدة، رغم ما تتضمنه من حرمان، أأمن من علاقة لا تستطيع أن تسكنها بشكل كامل. بشكل ما، ذكرتني «هنا وهناك» بفيلم«الألفة» (2001) لباتريس شارو، وهو مأخوذ عن قصص للكاتب الإنجليزي حنيف قريشي.
«أشياء لا تحدث إلا في مترو منتصف الليل» و«واحدة بواحدة» ليستا على نفس مستوى باقي قصص المجموعة. تستكشف كلتاهما الذكورة الهشة وانعدام الأمان لدى بطليهما المرتبطن بزوجة أو صديقة ذات شخصية قوية. كل منهما يخشى أو يتفادى المواجهة وينجرف لمغازلة فتيات أخريات. في القصة الأولى يبرز الحاج الجانب الاستعراضي للذكورة القاهرية التقليدية بشكل طريف، لكن بينما تكون قصيرة وتنتهي بغتة، فلا تدع له مجالًا لاستعراض إمكانياتها المحتملة، تتسم الثانية بروح دعابة مسلية وخفيفة يجيد فيها الحاج توظيف المشاحنات الجنسية بين الزوجين في سرد تشويقي يتوقع القارئ إما أن يسفر عن كارثة أو تطهير روحي.
توج الحاج مجموعته بجوهرة أدبية تحمل عنوان الكتاب: لا أحد يرثي لقطط المدينة. بطلها حازم الذي انهارت حياته بفقدانه حبيبته وبوقوفه عاجزًا بينما تقبض الشرطة على أصدقائه قبل ذكرى الثورة في وسط البلد، وهو يخشى التعلق بآخر قشة آمل في حياته، دلال، لرحيلها إلى نيويورك بعد أيام.
يبرع الحاج في تصوير المعاناة المنصهرة من الرغبة والخوف والخسارة على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي في تلك الحقبة الزمنية، خاصة من منظور ثوار محبطين يعانون من التغريب والتخوين في مجتمعهم. لهذا ربما تبدو مجموعة الحاج أشبه بعض الشيء، بمجموعة ميلان كونديرا «غراميات مضحكة» (1970)، والتي برع في تصوير تأثير المناخ السياسي المضطرب والقمعي على العلاقات الإنسانية بكل ما تحوي من حميمة وعاطفة وعشق.
«لطالما أحببت كيف تمطر في القاهرة. في مدينة حارة تدعى القاهرة لم يكن بوسعي التفكير في المطر سوى أن السماء تدمع أسفًا علينا، نحن سكان هذه المدينة المحزونة». (لا أحد يرثي لقطط المدينة)
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن