(1)
بشكل عام، يعد جهاز التلفزيون ماكينة لبث أوامر السلطة، ولكن ذروة البروباجندا الإعلامية المصرية، والقائمة على توجهات الطبقة الحاكمة بالطبع، تتجلى بشكل موسمي مع حلول شهر رمضان، الذي أعتبره الكاشف الأول لحقائق المجتمع.
لا يُقصد بـ «الذروة» هنا البرامج التلفزيونية أو مسلسلات الدراما، بل يتعلق الأمر بشكل رئيسي بالإعلانات ونظامها المركب، سواء من حيث طريقة العرض مرئيًا أو حتى بالمحتوى النصي لتلك الإعلانات، والتي يتلقاها أي مواطن أثناء جلوسه على مائدة الإفطار وبعده، وهي تشكل نصوصًا مدروسة ومنتقاة بعناية فائقة عن طريق عقلية مؤسسية، تتعمد تحدي مشاعر الغالبية الكادحة من الشعب واستفزازها، والذين لن تجد منهم سوى التهكم اللاذع على ذلك المحتوى الطبقي والسلطوي، فيما يمكننا عده نوعًا من المقاومة السلبية.
صحيح أن هذا الأمر يتكرر بصورة منتظمة على مدار السنوات السابقة، لكن الوقاحة وصلت إلى درجة غير مسبوقة هذا العام.
(2)
نحاول هنا التركيز على عدد من الإعلانات الرمضانية التي عُرضت هذا العام، من حيث نوعيتها، إن كانت تابعة لجهة حكومية أو كومباوند أو ما يسمى تجاوزًا بـ «الأعمال الخيرية».
ولضخامة عددها، لا يمكن ذكر كافة الإعلانات، وبالتالي فسنحاول التركيز فقط على أبرزها.
نبدأ أولًا مع الإعلان الذي كان الأكثف من حيث عدد مرات العرض، وأكثر الإعلانات تعبيرًا أيضًا عن تحدي سلطة السيسي للشعب، ويقع وفق تصنيفنا تحت بند «إعلانات الجهات الحكومية»، إعلان «رؤية مصر 2030» بطولة الممثل هشام سليم.
الهدف، أو الرسالة الظاهرة، هي بعث الأمل، الوهمي، في نفوس الشعب، بأن مصر تتقدم بخطوات صحيحة نحو طريق الإصلاح الاقتصادي والسياسي و «الحكومة الإلكترونية»، بغرض السيطرة على النفسية والعقل الجمعيَيْن للمصريين الذين يُفترض بهم التهليل لهذه الإنجازات.
لكن الهدف الحقيقي لهذا الإعلان هو تحدي أي معارض أو متضرر من سياسة الإصلاح الاقتصادي التقشفية، أو نهج الإصلاح السياسي برعاية طبقية عسكرية.
«خبير؟ دارس؟ وقبل دا كله عندك معلومات؟»
هذه هي الرسالة النظامية الرئيسية المُرسَلة عبر هذا الإعلان، حيث لا يحق لك أن تعارض أو تتذمر، أو حتى أن تعلن تضررك من أي من الإجراءات التقشفية الاقتصادية، إلا إذا كنت حاملًا لدرجة الدكتوراه من جامعة أجنبية مثلًا، أو أن تكون من النخبة المثقفة المتلونة التي تلبس، بأوامر عليا، لباس المعارضة الكاريكاتورية من وقت لآخر.
أما إذا كنت، لا سمح الله، مجرد عامل في فرن أو طالب جامعي أو قهوجي أو مزارع، فلا يحق لك فتح فمك حينها. وهنا يتعامل النظام، كعادته، بصيغة طبقية مع مجمل الشعب بوصفه قطيعًا من الأغنام التي لا تعرف طريق المراعي. بمعنى آخر: «اخرسوا وسيبونا نشوف شغلنا.. إنتو مش عارفين مصلحتكم.. إحنا بس اللى نعرفها!»
وبالنسبة لموضوع الخبرة والمعلومات، فتكفي الإشارة هنا لبرامج إعادة الهيكلة والإصلاح الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، والتي طُبقت في العديد من مناطق العالم الثالث تحت رعاية ديكتاتوريات مختلفة من الصومال إلى بيرو، وكان الترويج لها يجري بنفس الطريقة التي يروج بها نظام السيسي اليوم على لسان هشام سليم أو غيره.
(3)
النوعيتان التاليتان من الإعلانات كفيلتان بحد ذاتهما لإظهار كم التناقضات الاجتماعية، بل والنفسية، داخل مجموعات الطبقة الحاكمة، بين التفاخر بالرفاهية وكافة وسائلها المقصورة عليهم، وبين تبييض الوجوه في إعلانات «مستشفى 500 500»، و«البيت الكبير» مثلًا.
هذا التناقض صار معتادًا في السنوات الأخيرة، لكنه يسير وفق نسق تصاعدي، من ناحية فرض الأمر الواقع وفرض قبوله بالقوة، سواء من خلال الشاشة أو من خلال الواقع المادي اليومي.
مثلًا، عُرضت هذا العام حملة دعائية أضخم مما سبق لمختلف الكمباوندات، سواء التابعة لهشام طلعت مصطفى، الابن البار للنظام دائمًا، أو غيرها من ماونتن فيو وأخواتها، مع التركيز الأكبر على مشاريع العاصمة الجديدة.
وبالتركيز على المحتوى النصي بتلك الإعلانات، يسهل جدًا استشفاف إلى أي مدى وصلت الطبقية في مصر، حيث تتردد جمل مثل «زحمة أقل.. نَفس أكتر.. خنقة أقل..هدوء أكتر»، أو فوازير «موانتن فيو» بطولة ماجد الكدواني ودنيا سمير غانم، أو حتى إعلانات شركة المراسم للكومباوندات عن «تطوير شكل حياتنا»، كما تقول يسرا في الإعلان باسمها الكبير.
حياة مَن يا يسرا؟حياتكم أنتم أم حياة سكان الوراق المهددين بالطرد من بيوتهم الذين «مثلتِ» عنهم مسلسلًا منذ عام؟
كل هذه الشواهد البسيطة تكفي لإيضاح المدى الذي وصلت إليه الطبقية في مصر، فلن أستغرب إن رأيت قريبًا إعلانًا عن دولة للكمباوندات بعلم ونشيد وحكومة ودستور وحدود جغرافية تخصها.
وفي اتجاه معاكس، تجد ذات الممثلين مع سائر نجوم المجتمع، يحثون الغالبية الكادحة، ويستعطفونها لإيصال المياه أو الملابس المستعملة لمستشفى 500500.
فمثلًا، على خلاف زوجته دنيا سمير غانم التي تتباهى برفاهية الكومباوندات، نجد المذيع رامي رضوان يعمل كمسكّن للمعدمين والفقراء من أهل القرى الذين يقول عنهم في إعلان «البيت الكبير» للزكاة والصدقات، إنهم لا يهمهم إلا وجود سند بجانبهم. وهكذا تسير بقية الأمثلة الشبيهة على النغمة نفسها، ذلك أن رامي رضوان وأمثاله لن يذكروا السبب الحقيقي لمعاناة الغالبية الساحقة، وهي في واقع الأمر عدة أسباب مادية ومباشرة ودقيقة الاتصال بكل تفاصيل الحياة اليومية، من إفقار، وبطالة، وانهيار في مؤسستَي التعليم والصحة، فضلًا عن تركز الثروة والسلطة في يد القلة الحاكمة. نخبة التلفزيون هذه لا تؤدي سوى وظيفة معينة موكلة إليها من رأس النظام، الذي يتوهم أنها ستؤدي إلى استتباب الأمر له.
ما أشبه ما بات يحدث كل رمضان بجملة الفنانة رجاء حسين (نبقة) في فيلم «حدوتة مصرية» للمخرج يوسف شاهين، غضبًا من نجوم المجتمع هؤلاء وصفوته: «إنت تعمل مننا روايات وبس.. وكلها كدب في كدب زي المرهم الأسود اللي كنت حاطه يوم باب الحديد. لكن احنا الزفت بحق وحقيقي».
(4)
لن تبقى في النهاية إلا حقيقة واحدة، رغم كل المحاولات التلفزيونية للتشويش وتبييض الوجوه، وهي أن مَن يدفع الثمن يوميًا، هم ركاب المترو أو الميكروباص، أبناء المجاري الطافحة وأفران العيش، مَن يخترعون بدل الحيلة ألفًا، لتوفير اللقمة وقوت اليوم، مَن يعرفون جيدًا أن كل تلك الأسوار ستنهار بأياديهم قريبًا على رؤوس أصحابها، وأن مَن يسكن داخل الحصون الفخمة لن ينفعه حينها «أن يأخذ اللقطة» في رمضان من كل عام، فكلما زاد خمول البركان، كلما أنذر بانفجار ضخم.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن