في ليلة العيد.. حين وصلت أم كلثوم لـ«الكمال»
 
 
«الست» تجلس بين الملحن محمد القصبجي وخال الملك فاروق شريف باشا صبري
 

جيل لم يعاصر أم كلثوم، ولم يرها على المسرح، ولا استمع إليها في حفلة مباشرة على الراديو أو التلفزيون، حتى إننا ولدنا بعد رحيلها بعدة سنوات، نحن جيل الثمانينيات والتسعينيات. جيل تربى على أن أم كلثوم هي سيدة الغناء، وهي مطربة الكبار. تخيفنا بتجربتها، وترهبنا بأنها منطقة محرمة لنا، كالأفلام التي يُكتب عليها للكبار فقط، لتصبح من المناطق التي نحلم باقتحامها عندما نكبر، ليس حبًا فيها أو إعجابًا، فقط كي نكتشف ماذا يوجد في هذا العالم، وكي نقنع أنفسنا أننا كبرنا حقًا، كانت أم كلثوم لنا إثبات إحساسنا بالسن، مثل السجائر.

وعندما كبرنا أو توهمنا أننا كبرنا، وقعنا في الفخ، أسرنا صوتها، وكأنها نداهة ونحن ضحايها، سلبت منا كل أنواع المقاومة، لا إحساس تشعر به، إلا ما أرادت هي أن تجعلك تشعر به، هي مَن لقبت بأكثر الألقاب المجردة، ولكنه بها أصبح أكثر لقب يدل على صاحبه «الست».

نحن هنا، سنحاول أن نعيش في رحاب «الست»، ونحضر معها أحد أهم الحفلات في تاريخها الفني والسياسي أيضًا، نبحث وراء قدراتها الفنية والسياسية والارتجالية. في مثل هذا اليوم، يوم وقفة عيد الفطر في عام 1944، وبالتحديد الموافق 17 سبتمبر، نحن أمام حفلة مرّ عليها أكثر من 70 عامًا، ولكن تبقى بأجوائها وأغانيها بكامل أناقتها وجمالها، وربما زادها الزمن جمالًا.

كانت أم كلثوم تقدم حفلات كثيرة في النادي «الأهلي» في الأربعينيات والخمسينيات، وفي ليلة العيد كانت الأجواء مستعدة لاستقبالها. أم كلثوم كانت بدأت بالفعل الجلوس على عرش النجاح، اقتحمت السينما قبل أعوام من الحفل، وسافرت خارج مصر عدة مرات في حفلات في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ورحلت أسمهان قبل هذا الحفل بشهرين فقط. الكل يترقب ماذا ستقدم أم كلثوم في تلك الحفلة، وماذا سيكون جديدها؟

الوصلة الأولى (مقطوعة ذكرياتي – رق الحبيب) لأول مرة

لم تبدأ أم كلثوم الحفلة، لكن كانت البداية مع فرقتها،  التي قدّمت تحت قيادة الأستاذ محمد القصبجي مقطوعة «ذكرياتي» من تأليف القصبجي نفسه، وهي تعتبر من أجمل ما قدّم من مقطوعات موسيقية، وقد عزفها عدة مرات، وتعارف الناس على أنها مقدمة أغنية «رق الحبيب»، لأن أم كلثوم غنَّت بعدها في تلك الحفلة ولأول مرة «رق الحبيب». وقيل أن أم كلثوم حذفت المقدمة بعد ذلك، فلم نسمعها مرة أُخرى من فرقتها في التسجيلات المتعددة للأغنية، وإن كان القصبجي قد لعبها منفردًا في جلسات أُخرى.

يتم تعريف «رق الحبيب» أنها الأغنية الأخيرة بين القصبجي وأم كلثوم، وهو غير صحيح، لأنه لحّن لها بعد ذلك أغنيتين في نهاية الأربعينيات، منهم الأغنية الشهيرة «يا صباح الخير يا اللي معانا».

أيضًا لم تكن «رق الحبيب» هي الأغنية الوحيدة الطويلة التي قدّمها القصبجي لأم كلثوم، فقد لحّن لها في نهاية الثلاثينات أغنية «يا قلبي بكرة السفر»، وهي أغنية طويلة وبها مقدمة موسيقية طويلة، ولكن لم تشتهر كثيرًا لأن أم كلثوم لم تغنها إلا مرة واحدة، أو ما وصلنا هو تسجيل وحيد لها.  وساهم في عدم انتشار الأغنية وجود أغنية أخرى لأم كلثوم باِسم مشابه، وهي أغنية «بكرة السفر» لزكريا أحمد والتي قدمتها أم كلثوم في فيلم «دنانير» 1940.

كلمات أغنية رق الحبيب

ظلم التاريخ القصبجي، وظلمت أيضًا أغنيته «رق الحبيب» في أول مرة تغني فيها، بسبب أن باقي فقرات  الحفلة غطّت عليها، فلم يذكرها أحد بالإيجاب أو بالسلب. كانت أغنية تليق بالمشوار الطويل والهام بين القصبجي والست، بداية من تلمذتها على يده، وحتى عمله كأحد عازفي فرقتها الموسيقية. رحلة استطاع خلالها القصبجي تدريب صوت أم كلثوم، وساعده في ذلك خامة صوتها واتساع مساحتها الصوتية، والتي أهّلته لأن يبدع، ويجرب مستغلًا كل إمكانياتها الصوتية، فالقصبجي لحَّن لأم كلثوم في أحلى فترات صوتها عذوبة وصفاء وقوة.

الوصلة الثانية (يا ليلة العيد)

كان من المعتاد أن تغني أم كلثوم في حفلة ليلة العيد، أنشودة «يا ليلة العيد» والتي غنّتها في فيلم «دنانير» قبل الحفلة بـ 4 سنوات، وهي الأغنية التي تمّ حذفها من الفيلم بعد الهجوم عليها، بدعوى عدم ملاءمتها للفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم، في العصر العباسي.

كانت «ليلة العيد» هي أغنية الوصلة الثانية، وما إن غنت أم كلثوم المذهب الأول، وبعد أقل من دقائق من بداية الوصلة، بدأت حركة غريبة تدب في المكان، وإذ بمحمد حسين حلمي بك يهمس في أذن رئيس النادي الأهلي أحمد حسنين باشا، فينهض من مكانه مسرعًا نحو البوابة، ثم لحظات وتتوقف أم كلثوم وفرقتها عن الغناء.

كلمات أنشوة ليلة العيد

الملك فاروق يحضر الحفل

بدأت تعلو أصوات الهتاف من الحاضرين «يعيش جلالة الملك.. يعيش فاروق  رئيس مصر والسودان»، والكل يصفق، فقد حضر الملك فاروق بسيارته الشخصية ودون سابق إخطار. توقف الغناء لمدة اقتربت من الربع ساعة، قبل أن يعلن مذيع الحفلة الأستاذ حافظ عبد الوهاب نبأ وصول الملك.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تغني فيها أم كلثوم أمام الملك فاروق، فقد غنّت أمامه عدة مرات، في حفلات عامة و خاصة، وقدمت أغاني كثيرة خصيصًا له. كما غنّت أمام والده الملك فؤاد أيضًا، بالإضافة لملوك آخرين مثل الملك فيصل في العراق، لكن هنا كان الاختبار الأصعب، اختبار المفاجأة وأنت على خشبة المسرح، دون أي تفكير أو تخطيط، كيف ستتصرف أم كلثوم؟

تكملة الوصلة الثانية (ارتجال وذكاء الست)

مع توقف الحفلة، واضطراب أم كلثوم، كان يجب عليها التفكير في كيف يمكنها الاستفادة من هذه المفاجأة لصالحها، كيف تستطيع توظيف كل ما يحدث حولها، حتى ولو كان خارج تخطيطها، ليصبح وكأنه من تخطيطها. كانت الفكرة الأهم ليست أن تغني بشكل جيد وتبدع، فهذا أمر مفروغ منه. ولكن الآن، بدأت تفكر أنها يجب أن تضيف شيئًا آخر، شيئًا يكون به خصوصية أكثر للملك.

كان المقطع الأخير من الأغنية، والذي كتبه رامي لأحداث الفيلم يقول: «يا دجلة ميّتك عنبر.. وزرعك في الغيطان نور.. يعيش هارون يعيش جعفر ونحيي لهم ليالي العيد»، وبعد حذف الأغنية من الفيلم، غيَّر رامي الكلمات  فمن «يا دجلة» إلى يا «نيلنا ميتك سكر»، ومن «يعيش هارون وجعفر» إلى «تعيش يا نيل وتتهنى».

التقطت أم كلثوم الخيط من هنا، وفكّرت في الرجوع إلى الأصل وتبديل كلمة «نيل» بـ «فاروق»، أيضًا تورية الكلام في الغناء وكأنه للملك، فغنت وبالطبع وهي تنظر للملك «هلالَك هلل علينا.. فرحنا له وغنينا وبكرة السعد حيجينا على قدومَك في ليلة العيد»، كان الهتاف يعلو من الحاضرين للملك، وعندما ارتجلت أم كلثوم النهاية أعاد الحاضرين الهتاف مرة أُخرى للملك. نجحت أم كلثوم في خطتها.

كل ذلك يمكن حدوثه دون الرجوع للفرقة الموسيقية، لكن ما حدث بعد ذلك، يوضِّح أنه حدث حوار مع الفرقة، وربما تدخل رامي في ذلك الموقف بجانب القصبجي، بداية من تهدئة أم كلثوم عند علمها بحضور الملك، أو لتمكينها من فعل ما تخطط له.

كان الارتجال الأكثر ذكاء وسرعة بديهة، فقررت أن تختار مقطعًا يناسب الموقف وهو ليلة العيد، حيث يمكن أن يكون الكلام وكأنه موجه للملك، فتختار المقطع الأخير من أغنية زكريا أحمد «حبيبي يسعد أوقاته»، وتغير كلمة واحدة فقط، هي كلمة «حبيبي» الأخيرة لتجعلها «لك يا مليكي» بدل من «وأنت حبيبي». قالتها بعد ما ظلت ما يقارب العشر دقائق تغني وكأنها تتغزل في الملك بكلمات المقطع، وتبدع في الغناء لتجعله مستسلمًا لها، ثم تفاجئه مرة ثانية بالخصوصية في كلمة مليكي.

«حبيبي حبيبي

زي القمر قبل ظهوره يحسبوا المواعيد

زي القمر يبعث نوره من بعيد لبعيد

زي القمر بس جماله كل يوم يزداد

وكل ما يهل هلاله تنعاد الأعياد

والليلة عيد ع الدنيا سعيد

عز وتمجيد وانت حبيبي»

يجيب هذا الموقف على سؤال لماذا أم كلثوم أسطورة فنية؟ فالأمر لا يعود لصوتها فقط، ولكن لذكائها البارع، وسرعة بديهتها في التعامل مع الظروف والأقدار، واستغلال الفرص لصالحها. كان هذا بالنسبة لأم كلثوم كافٍ جدًا. رضا الملك في ذلك الوقت، والاقتراب منه هو في حد ذلك نجاح فني وضمان أمان أيضًا، رغم أن الملك وقف أمام زواجها من خاله شريف باشا صبري قبل تلك الحفلة بسنوات قليلة.

نيشان الكمال وكلمة الست

بعد كل هذا الإبداع وانتهاء الوصلة، نزلت أم كلثوم لجلالة الملك، وقبَّلت يده، وعلت الهتافات مرة أخرى. أذن لها بالجلوس معه على المائدة الخاصة به، وبعد لحظات من جلوسها، أعلن أحد أعضاء مجلس إدارة النادي الأهلي، «أن حضرة صاحب الجلالة الملك مولانا الملك المحبوب قد تعطف فمنح أم كلثوم نيشان الكمال»، هكذا وصف مذيع الحفلة ما حدث. بعد تلك اللحظة غادر الملك الحفلة.

رأت أم كلثوم نجاح خطتها في لحظتها. حصدت لقب لم تنله أي فتاة مصرية من خارج العائلة المالكة من قبل. هذا هو سر خلودها. كيف تتعامل مع الموقف، وتخرج منها منتصرة. هكذا فعلت مع الملك، وهكذا ستفعل مع قدوم ثورة يوليو 1952، فكل ما يشغلها هو خلودها الفني، وستفعل أي شيء يضمن استمراره خطتها، التي من أهم بنودها، الرضا بينها وبين الدولة، أيًا كان توجه الدولة ورجالها، هي تحافظ على فنها من الدولة ورجالها. اختلفنا أو اتفقنا مع هذه الخطة أو هذا التوجه.

مجلة الإثنين خصصت غلافها لصورة أم كلثوم وقد وضعت نيشان الكمال على فستانها

الوصلة الثالثة (أنا في انتظارك)

رحل الملك بعدما أنعم على أم كلثوم بنيشان الكمال، وعيّد على الحاضرين، لتقف أم كلثوم لتقدم وصلتها الثالثة، وقبل الغناء شكرت الملك على تفضّله بما منحه لها، وتمنت له دوام العمر، ثم بدأت غناء «أنا في انتظارك»، وللأسف لم يصل إلينا منها إلا جزء قصير. هكذا جمع الحفل بين ملحني الست الكبار، بداية من القصبجي مرورًا بالسنباطي، وختامها مع زكريا أحمد.

في صباح أول أيام العيد، ذهب وفد من نقابة الموسيقيين، وعلى رأسهم أم كلثوم بشخصها، وبصفتها نقيبة الموسيقيين، إلى قصر عابدين لتقديم الشكر للملك، بشكل رسمي وشخصي في نفس الوقت. وبدأت تنهال على أم كلثوم برقيات التهنئة من داخل مصر وخارجها، وبدأت الإذاعات في أنحاء العالم تذيع الخبر، وبدأت المشاكل أيضًا داخل العائلة المالكة، فكيف لفلاحة مصرية أن تنال هذا الوسام وتصبح «صاحبة العصمة الأنسة أم كلثوم».

أم كلثوم مع وفد نقابة الموسيقيين في القصر الملكي

لكن أم كلثوم لم تبالِ واستمرت في طريقها. وكما رفض الملك زواجها من شريف باشا صبري لأنها ليست من العائلة المالكة، ها هو نفسه يمنحها «نيشان الكمال». كل ذلك حدث  قبل أكثر من سبعين عامًا، واستمرت بعدها الست في خططها في الخلود الفني والموسيقي، وحقًا لقد نجحت في ذلك بشكل كامل، وها نحن في 2018 نستمع إليها ونكتب عنها في ليلة العيد.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن