عبد الحكيم قاسم.. «الكتابة الجيدة فقط إلى آخر عمري»
بورتريه للروائي عبد الحكيم قاسم
 
 
 

تتطلب قراءة عبد الحكيم قاسم (1935-1990) نفس القدر من الإخلاص والتركيز الذي كرسه الكاتب لكتابتها، فقاسم كاتب لا يدلل قراءه بحبكات درامية شيقة أو بحوارات ممتعة، كذلك لا يستثمر في رسم شخصيات مثيرة تتطورّ مع الأحداث. فعلى نقيض نجيب محفوظ (1911- 2006) الذي أجاد تنويع كتاباته بتحولات درامية غير متوقعة تصلح لاقتباسها في أفلام السينما المصرية، لم يضع قاسم قارئه نصب عينه في المقام الأول، بل كانت الكتابة نفسها هي غايته؛ الكلمات التي وفرت له ملاذًا منذ صغره في قرية نائية في الدلتا حتى منفاه الاختياري في برلين. فعلى الكاتب دائمًا أن يتغلب «على ذلك الخوف من النجاح أو الخوف من الفشل أو الخوف من الانصياع للمجتمع» كما صاغ في رسالة 1983 إلى صديقه الكاتب محمود الورداني.

«أصبحت قويًا في داخلي وغير خائف من الدنيا وأصبحت واثقًا أنني سأحب الكتابة فقط والكتابة الجيدة فقط إلى آخر عمري.. » ، واصل في الرسالة نفسها.

لذلك يشهد مخزون قاسم  الأدبي، المكوَّن من ست روايات قصيرة، وخمس مجموعات قصصية، ورواية غير كاملة ومسرحية إذاعية، عبقرية أدبية، لها نكهة مميزة تجعلها متفردة في الأدب المصري، إلا أنها لم تحظ أبدًا بجمهور واسع، ربما لتعقيدها، وعمقها المحمّل بطبقات عدّة، تجعل تجربة قراءتها تتطلّب شغفًا غير استهلاكي.

قرية قاسم

كما تفنن محفوظ في ترسيخ «الحارة» المصرية في وعي قرائه، أبدع قاسم في وصف حياة الأرياف وقرى الدلتا الصغيرة، التي تحتل معظم أعماله. في روايته الأطول «أيام الإنسان السبعة» (1969 – 256 صفحة) خلق قاسم مقامًا لحياة الفلاحين في قرية صغيرة بالدلتا، مصورًا حياتهم اليومية بالتفاصيل، من خبز السيدات وفصل القشطة عن الحليب، وسمر ومجالس الرجال والنساء الحميمة، إضافة إلى هندسة المنازل المهدمة والطرق المعرجة. يستهلك قاسم حواس القارئ بإفراطه في الوصف، فيخيل لي أحيانًا أني بالفعل أشم رائحة القش، وأرى بوضوح قطارات الدلتا محشوة بالراكبين والفلاحين.

ذكَّرني بطل الرواية عبد العزيز – وهو بمثابة الألتر إيجو لقاسم، أي بطل أدبي يشبه الكاتب لدرجة كبيرة، وقد ظهر أيضًا في «المهدي» (١٩٧٧) و«قدر الغرف المقبضة» (١٩٨٢) و«ليلة رأس السنة»  (١٩٨٨)-  ببطل مارسيل بروست في عمله الضخم «البحث عن الزمن المفقود» (١٨٧١- ١٩٢٢)، تحديدًا الجزء الأول: جانب منزل سوان، حيث يتذكر طفل مرهف المشاعر مشاهد منفصلة من طفولته؛ كعلاقته المتوترة بوالديه وتجاربه الجنسية الأولى وعشقه للكتب والطابع الخاص للحياة في الريف.

تدور رواية قاسم التي يعتبرها معظم النقاد تحفته الأدبية  في عالم الموالد، وهي بطريقة ما تبرز ثنائية المدينة والريف، وقد صاغ قاسم حواراته ومشاكساته بين الرجال والنساء بالعامية، بلهجة الدلتا. ربما قد يعتبرها البعض مرهقة  إلى حد ما في القراءة، بسبب تفكك الأحداث بعض الشيء، وتناثر انطباعات البطل المتفرقة هنا وهناك.

 يبدو لي  أسلوب قاسم في الكتابة، وكأنه مصوّر يتفقد العالم من خلال عدسة كاميرا، بأسلوب يتبع مدرسة التصوير الواقعية، لتعرض صورًا خام للحياة في القرية، فيما تتداعى ذاكرة البطل كما في «عوليس» لجيمس جويس (1918-1920) أو في «السيدة دالواي» (1925) لفيرجينا وولف، لترصد وعيه وإدراكه لنفسه والعالم.

روايته القصيرة «الأخت لأب» (1983) تدور هي الأخرى عن ولد صغير في قرية بالدلتا. وهي تشبه لدرجة كبيرة «السهوب» (1883) للكاتب الروسي أنطون تشيحوف. ففي الراويتين القصيرتين يتنقل ولد من قرية لأخرى في عالم الرجال المليء بالعنف والعجائب. في «أخت لأب» يلقي قاسم الضوء على عالم النساء الخفي والحميم وعلى ممارسات الرجال القمعية عليهن، خاصة تفرقة الرجال وعائلاتهم في معاملة الزوجات. (كانت أم قاسم الزوجة الثالثة لوالده). ورغم تشابه «أخت لأب» مع رواية «أيام الإنسان السبعة»، إلا أن الحبكة أقوى في «أخت لأب».

احتفظ قاسم حتى مماته بشوقه إلى القرية التي لم يجمّلها أو يعظمها. وقد عاش صغيرًا في قرية قرب طنطا ثم في ميت غمر. وكعدد كبير من الشباب انضم في صغره إلى جماعة الإخوان المسلمين حتى انتقل لدراسة الحقوق في الإسكندرية. وقد كتب عن هذه الفترة في روايته القصيرة «المهدي» (1977)، وهي قصة نادرة للكاتب، تدور حول زوجين قبطيين فقيرين، يوفر الإخوان المسلمون لهما مأوى وطعام بهدف إرغامهما على إشهار إسلامهما. تتميّز القصة بتطور محسوب للشخصيات والأحداث، وقد صاغها قاسم بلغة سهلة وبسيطة، مقارنة بأعماله الأخرى.

في هذه القصة، يصور قاسم الإخوان المسلمين بواقعية دون أن يتحامل عليهم، ومع هذا يعرض مساعيهم البدائية في إشهار إسلام القبطيَين، وتكوينهم الهرمي الأبوي الذي يعتمد على الولاء والطاعة التامة للقادة. كذلك حبهم الأخوي الذي يصوره قاسم بطريقة جنسية مبهمة. وتكمن براعته في إظهار الذنب الذي يستشعره سكان القرية لسلبيتهم، ولعدم تدخلهم لصالح الزوجين.

جيل الستينيات

كان قاسم يرى نفسه كأحد ممثلي جيل الستينيات وحركته الأدبية، المتأثرة بسياسات جمال عبد الناصر، وبالواقع الجديد الذي فرَض نفسه على المواطن المصري بكل ما يحمله من مشاكل سياسية واجتماعية تختلف عن جيل محفوظ. فهو يرى نفسه من جيل إدوارد خراط ومحمد البساطي، وجمال الغيطاني، وابراهيم أصلان، وجميل عطية،ومحمد روميش، ويحي طاهر وآخرين، وكانت له صلات حميمة بمعظمهم.

وككتاب كثيرين من هذا الجيل تم اعتقاله من قبل النظام. ففي 1959 حكم عليه بخمس سنوات لانتمائه للحزب الشيوعي، ليعمل على روايته الأولى «أيام الإنسان السبعة» خلف القضبان. وخلَّفت هذه التجربة المروعة جراحًا لم تندمل أبدًا، وإن كان لم يتوقف عن الكتابة مثل زميله روميش الذي  لم يتعاف أبدًا بعد خروجه من سجون ناصر، وهجر الكتابة بشكل كامل.

كتب قاسم عن فترة اعتقاله في روايته «قدر الغرف المقبضة» (1982). كذلك في قصته القصيرة «الجراحة» التي نشرت في مجموعة «ديوان الملحقات» (1990). في العملين يعالج تفاصيل يوميات السجن كالعنف الجنسي بين المسجونين ومعاملة الحراس السادية، إضافة إلى تفاصيل الحياة اليومية، مثل التجارة بالسجائر وتعامل المسجونين مع بعضهم وحال مستشفى السجن.

وتتطرَّق «قدر الغرف المقبضة» للفقر القاهر الذي عاشه قاسم أو عبدالعزيز أثناء طفولته ومراهقته، ولتنقله من سكن قبيح إلى التالي. إضافة إلى فترة دراسته بالإسكندرية وهجرته إلى برلين الغربية حيث شعر بالغربة والاضطهاد. في الرواية يربط قاسم بين العنف الاجتماعي الذي ينبت في الغرف المقبضة في عشوائيات المدن والقرى، وعدم توافر الفرَص لعيشة كريمة، والعنف السياسي الذي يولد بدوره العنف بين المواطنين. كذلك يفقع فقاعة الهجرة إلى أوروبا بتصويره سنوات برلين الغربية دون رومانسية، بل بشقائها ومرارتها وصعوبته في التأقلم.

برلين الغربية – سنوات الغربة

قضى قاسم أحد عشر عامًا في برلين الغربية من 1974 إلى 1985. حيث لازمته ضائقة مالية معظم الوقت، واستشعر الوحدة والحنين إلى أصدقاءه في مصر.

بعد ما تم دعوته من قبل قسيس إنجيلي ليشارك في ندوة أعدتها جامعة برلين الحرة، قرَّر قاسم أن لا يغادر ألمانيا. كان في نحو الأربعين من عمره حينها. يعمل كموظف في مصر، وليس لديه أي فرص للتدرج الاجتماعي. سجَّل نفسه بالجامعة، واختار جيل الستينيات الأدبي في مصر كموضوع لرسالته للدكتوراه.

«سأعود للقاهرة دكتورًا حتى ولو لم يكن معي مليمًا» ، كتب لصديقه حسني عبد الفضيل في جواب.

ظل قاسم يعمل على الرسالة لسنوات دون أن ينهيها. وبدلًا منها قام بتأليف أهم أعماله في هجرته؛ «المهدي» و«الأخت لأب» و«قدر الغرف المقبضة» و«طرف من خبر الآخرة» (١٩٨٢) و«سطور من دفتر الأحوال» (١٩٨٣).

نحن مدينون للكاتب محمد شعير ودار ميريت بنشر رسائله الخاصة لعائلته وأصدقائه وتجميعهم في «كتابات نوبة الحراسة«» (٢٠١٠). لا تعطي هذه الرسائل نبذة فقط عن حياة الكاتب في الغربة، إنما تلقي الضوء على معتقداته الفلسفية والسياسية ومعاناته الشخصية. قام قاسم بعدة وظائف متنوعة في برلين، فقد عمل مثلًا لبعض الوقت كحارس ليلي حيث قضى ساعات طويلة ووحيدة يملي خواطره على قلمه. لذلك عنوان الكتاب: كتابات نوبة الحراسة.

لبعض الرسائل طابع فلسفي وأخرى تناقش قضايا ثقافية أو أدبية، أمِل قاسم أن يتم نشرها، فطلب من روميش مثلًا أن يحتفظ برسائلهما. وهناك رسائل طويلة يبدو أنه كتبها لشعوره بالضجر، مثل جواب يلخص فيه تاريخ مصر الفرعوني والقبطي والإسلامي. كذلك جواب يتجادل فيه مع الناقد السوري بطرس الحلاق حول مكانة «زينب» (١٩١٣) لمحمد حسين هيكل (١٨٨٨-١٩٥٦). وقد بدت لي هذه الرسائل أكثر فتورًا، من الرسائل الشخصية الأكثر حميمية التي أفصحت عن شخصيته الحساسة؛ مثل رسالته لأخيه التي يعبر فيها عن مدى حبه لأبيه، ورسالة أخرى يشكو فيها أن أمه لم تكن تعانقه وهو صغير، ورسالة يعترف فيها بمشاكله الزوجية، أو أنه تم التحرش به جنسيًّا من قسيس في ألمانيا.

يناقش قاسم أيضًا في الرسائل صعوبة نشر كتبه ومقالاته في مجلات، لأنها لا توفر أجورًا معتبرة، كذلك يتحدث عن قناعته بأن الأدب عليه أن يكون مستوحى من الحياة. ففي رسالة إلى الورداني يتذكر فيها صديق لهما صارع المرض طويلًا، وكيف احتفل قاسم معه بليلة رأس السنة، ثم  نجد هذه الحكاية بصورة مطابقة في قصة «ليلة رأس السنة» التي نشرت بعد مماته في «الديوان الأخير» 1991.

مثلث السياسة والدين و«الموت»

يبدو قاسم أحيانًا مهووسًا بمراسم الموت، كغسل الميت وطقوس الندابة والدفن. «رجوع الشيخ»  (1986) و«طرف من خبر الآخرة»  (1981) و«سطور من دفتر الأحوال» و«حكايات حول حادث صغير» و«تحت السقوف الساخنة» (قصتين منشورتين في مجموعة الظنون والرؤى 1986) كلهم قصص تتمحور الأحداث فيها حول حالة وفاة تقع في قرية بالدلتا.

تدور قصة الموت والحياة ( في المجموعة القصصية: الظنون والرؤى) مثلًا عن جنازة في قرية بالدلتا لرجل اتهم بالإلحاد لأنه خالف شيخ القرية، الذي اعتاد زرع الخوف والرهبة في قلوب المسلمين. أما في «طرف من خبر الآخرة» يتطرق قاسم إلى مفهوم عذاب القبر. ففي هذه الرواية القصيرة يخوض ملاكان حوار فلسفي مع الميت في قبره، يحللوا فيها حياته وقراراته ويجادلوه بالمنطق بدلًا من الرهبة حول ذنوبه ومنها اضطهاده لزوجته وابنته، وينتهي كل فاصل بصياحه: إنني أرى الآن.

مع أن رسائل قاسم تظهر مقته لمحفوظ الذي كان يراه كاتبًا للنظام، إلا أن، للمفارقة، «طرف من خبر الآخرة» تشبه من حيث المضمون، وبطريقة ما رواية «قلب الليل» (1975)، لمحفوظ. فكلاهما يدوران عن علاقة حفيد بجده، والذي يعده في صغره كي يصبح علامة دينية، إلا أن إغواءات دنيوية تراوده، و تزلزل إيمانه. وفيما يفقد البطل رشده عند محفوظ، يتصوّف عند قاسم.

أما في «سطور من دفتر الأحوال» يحبك قاسم العنف السياسي والاجتماعي مرة أخرى. يمزجهما ببعض ليعكس كيف يتغذيان على بعضهما. ففي القصة يورِّث قمع المملكة العثمانية إلى الشرطة المصرية، وهي بدورها جزء من آلية اجتماعية قامعة تقوم على الجهل والخرافة والعنف بين الفلاحين وبعضهم.

«سطور من دفتر الأحوال» من أفضل ما كتبه قاسم، في رأيي، لأنها تربط الخوف المتبادل الذي يسيطر على الفلاحين والشرطة بالعنف المتولد بينهما. وقد اضطررت لقراءتها مرتين، كمعظم أعمال قاسم لتتراءى لي المعاني والرموز المحجوبة المعلّقة بين السطور. لكن حتى مع تشابه السياقات العامة لهذه النصوص، تتباين جودتها، مثلما الحال مع كل كاتب.

كان قاسم يعشق استخدام الرمز في كتابته، خاصة عند استناده لمفاهيم فلسفية. الموت والسياسة والصوفية مثلث مترابط في «رجوع الشيخ»، وهو نص مغرِق بالإيحاءات الفلسفية المبهمة. ويدور عن بطل يسافر إلى فاس لنيل المعرفة وري ظمأه الروحي. يتطرق قاسم لمفهوم العشق عند الصوفيين، ويضيف إليه العشق الزوجي، تحديدًا التلاحم الجنسي والروحاني الصانع للحياة.

حين يدعو الشيخ في القصة لصيحة روحانية جديدة يصطدم بالسلطات القمعية التي تشرع في محو أي تفتُّح فردي. ويرى قاسم أن اختفاء الروحانية، لا يرجع فقط للقمع السياسي، وإنما أيضًا لهيمنة المدينة وتوسعها بفرض آليتها الميكانيكية، التي تعامِل الفرد بوصفه جزءًا من قطيع، وليس له حقوق شخصية. تتسم الرواية أيضًا بطابع خيالي وخرافي، فتشبه قصص ليالي ألف ليلة وليلة ، مما ينوه له قاسم حين يقرأ الشيخ كل ليلة من كتابه الصوفي إلى زوجته قبل النوم.

  من ناحية أخرى، ربما  طغت، في بعض الأحيان، بلاغة قاسم واهتمامه بأن يحكم لغة نثره إيقاع منظم، وثراء في الصور الشعرية، على حساب ما يريد إيصاله. فيبدو أحيانًا كأنه ألّف نصوصًا فلسفية وصوفية متنكرة في شكل قصص، على خلاف محفوظ مثلًا الذي درس الفلسفة ليتأمل على لسان أبطاله الأسئلة الوجدانية.

العودة إلى مصر– الانخراط في السياسة ثم الرحيل

بعد ما قضى قاسم أكثر من أحد عشر عامًا في برلين عاد كالغريب إلى مصر، دون أن يجمع أموالًا أو ينال شهادة الدكتوراه. انتابته المرارة في هذه الفترة الختامية من حياته، لأن نجمه لم يلمع في عالم الأدب رغم كل ما بذل من تضحيات من أجل الكتابة.

صرح لي الكاتبان محمود الورداني وسعيد الكفرواي كم كان قاسم يشعر بالتهميش لأنه لم ينل التقدير الذي يستحقه. ربما هذا يفسِّر قراره الانخراط في العمل السياسي والترشح لانتخابات مجلس الشعب 1987، على قائمة حزب التجمع اليساري، رغم عدم توافقه مع رئيسه رفعت السعيد.

كانت فرص قاسم ضعيفة من البداية، يتذكر الورداني. ومع ذلك أقدم على حملته بجدية وعقد مقابلات مكثفة مع الفلاحين والعمال في محافظة الغربية. وفي النهاية خسر الانتخابات وأصيب بجلطة وشلل نصفي.

«لقد أثر الشلل بشدة على أفكاره. فهو لم يعد أبدًا كما كان» قال الورداني في حزن.

ذهلت حين علمت أن قاسم راح يكتب عواميد مسيئة وجارحة ضد رفاقه من جيل الستينات في صحيفة الشعب التي كان يصدرها حزب العمل الإسلامي. من الكتاب الذين هاجمهم سعيد كفراوي وجمال الغيطاني ويوسف أبو رية وإبراهيم أصلان.

«تألمت بشدة من كلماته الجارحة» قال كفراوي الذي قرر أن لا يرد عليه حينذاك. ففي عموده انتقده قاسم لحصوله على عقد عمل في السعودية وعلى شقة غالية اشتراها. بينما في عمود آخر وصف أصلان بأنه كاتب بائس، مع أن تكلم في أحد خطاباته من برلين عن عشقه لكتاباته.

بدا لي وكأن قاسم أراد أن يمحو الأحد عشر عامًا من حياته اللاتي كرسهم لكتابة الدكتوراه، كما يُقْدِم فنان على تدمير تمثال ظل ينحته لسنوات، دون أن يكتمل.

صدر آخر مؤلف له «الديوان الأخير» بعد مماته في 1991. مجموعة قصص عاد بها إلى مكان أحداثه المفضل؛ القرية. ولكن بدا لي وكأن مخزونه الأدبي نفد حينذاك، مجرد سكتشات أدبية لأعماله الكبرى. باستثناء رواية غير مكتملة «كفر سيدي سليم» نشرتها دار الشروق في 2016 ضمن أعماله الروائية الكاملة.

تقع أحداثها بالطبع في قرية بالدلتا. يقدم قاسم في أول عشرون إلى ثلاثون صفحة عشرات الشخصيات، فلاحون وحرفيون، ويطلق سراح تداعي الذاكرة التي تعكس هوسه بتفاصيل الحياة اليومية لساكني القرى. ويشهد النص الخام بعبقرية قاسم الأدبية، وأسلوبه الخاص بمزج التأملات الفلسفية بملاحظاته الشعرية. وقد ذكرني الفصل بـ«الأرض» (1954) لعبد الرحمن الشرقاوي وأيضًا بقصص وروايات محمد البساطي اللذان تبنيا إدراج شخصيات مختلفة غير الفلاحين، كأصحاب الحرف في رواياتهما، ليعكسا الأشكال المتنوعة للحياة في الريف، مع أن كتابات قاسم بها من البلاغة والفكر ما هو أعمق.

لم ينه قاسم إلا فصلًا واحد من الخمسة عشرة الذين خططهم للرواية. ففي يوم 13 من نوفمبر 1990 فارق الحياة بعد معاناة مع المرض دون أن يحقق الشهرة والمكانة التي طالما حلم بها إلا بعد مماته.

ففي 2016 قامت دار الشروق بإعادة طبع أعماله الروائية القصيرة والقصصية كذلك «قدر الغرف المقبضة»، وقد كانت أعادت طبع «أيام الإنسان السبعة» 2005 لتعيد ذكرى قاسم إلى القارئ المصري. كذلك نشرت دار ميريت رسائله في 2010.

شملت حياة قاسم محطات فاصلة؛ مثل معاناته الفقر، والاعتقال، والغربة، وانضمامه إلى الإخوان المسلمين ثم الحزب الشيوعي، وتبنيه آراءً ليبرالية وصوفية، ثم محافِظة قبل مماته. تشهد هذه الفصول المختلفة ليس على تناقض فكري كبير، وإنما على ثراء تجربة إنسانية انعكست بدورها في كتاباته المعبرة عن واقع متغير يشمل المصريين بمختلف ألوانهم، ينطلق من فضاء الريف، غير منسحق تجاه مركزية المدينة.

اعلان
 
 
شريف عبد الصمد 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن