كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها علاء عبدالفتاح في المحكمة قبل عامين. والمرة الأخير التي رأيت فيها ماهينور المصري كانت منذ ستة أسابيع في المحكمة أيضًا.
لا أعلم متى سأراهم ثانيةً.
كلاهما في السجن ينتظران أحكامًا مختلفة من المقرر أن تصدر في 30 ديسمبر. أجاهد لكي أبقى آملًا، لكي أهدئ المرارة التي تزبد في معدتي حينما أفكر فيما قد يحدث في ذلك اليوم، كيف ستتقرر مصائرهما في ذلك اليوم بناءً على أهواء قاضٍ ما، كيف قد يسرق منهما المزيد من الوقت، المزيد من الأيام والشهور والسنين، التي سيقضونها مقيدين إلى قفص، كيف سنشعر نحن بالخارج بالعجز عن مساعدتهم.
قضى علاء فعلياً ثلاثة أعوام ونصف من عقوبته البالغة خمسة أعوام في قضية مجلس الشورى. من الصعب التفكير في ذلك. الحياة تمضي قدمًا لا محالة. ابنه كبر وأصبح غلام، مات أبوه، تزوجت أخته، ابن خالته أنجب طفلًا. تغيرت عائلته، توسعت وازدحمت واختبرت التراجيديا والفرح كما تفعل العائلات، كل ذلك بدونه.
أتساءل أن كان تغير هو الآخر. يكتب هشام مطر في مذكراته «العودة» أن «جزء مما نخشاه في المعاناة –وربما الأكثر إثارة لخشيتنا- هو التحول». هل تحول علاء؟.
حينما اعتقل في نوفمبر 2013، اقتحمت كتيبة من رجال البوليس المقنعون والمدججون بالسلاح بيته، ضربوه وامرأته وأخذوه بعيدًا. تركوه على أرض الزنزانة لليلة مقيدًا، مجروحًا، ومغمى العينين بخرقة شديدة التلوث حتى أنها أصابت عينيه بالتهاب. ترك أخيرًا في الحبس الانفرادي لاثنين وعشرين ساعة في اليوم حتى أطلق سراحه بكفالة في مارس 2014.
رأيته بعدها بأيام قليلة. تحدث باستفاضة عن كيف يبنى نظام السجن بأكمله على الرشاوى، عن الفارق في المعاملة بين المحتجز السياسي والجنائي، عن استحالة تحري الدقة في نقل كيف يشعر المرء حينما يحبس، أن يفقد سيطرته كاملة على كل شيء في حياته. حتى حينها، صار علاء مدانًا سابقًا ذو خبرة.
أخبرني أن الأمر الأكثر أهمية له بالداخل هو الكتب، يليها القلم والورقة. للجزء الأكبر من الثلاث سنوات ونصف الماضيات حددت سلطات السجن تعرضه للكتب والخطابات والمواد المقروءة الأخرى كثيرًا. أتساءل كيف يتكيف مع هذا الأمر.
سجن علاء ثانيةً في يونيو 2014 ثم أطلق سراحه في سبتمبر. في تلك المرة كانت أخته سناء في السجن. رأيته خارج سجن طرة مع عائلته حيث حكم على سناء بالحبس ثلاث سنوات. في اليوم التالي مباشرة، 27 أكتوبر، أعتقل علاء في المحكمة حينما استمرت إعادة محاكمته.
في المنشور الأخير الذي وضعه على فيسبوك، صورة ذاتية (سيلفي)، يقف علاء عابسًا قليلًا بينما يبدو وراءه كوم من القمامة والركام مراق بجوار أسوار طرة. كتب علاء «قاعدين على القهوة جنب معهد تدريب أمناء الشرطة على القتل والاغتصاب مستنيين يسمحولنا ندخل. و يا عالم هيسمحولنا نخرج ولا لأ».
لم يسمحوا له.
منذ تلك اللحظة وهو وراء القضبان. أمضى وقتًا داخل السجن أكثر مما أمضاه خارجه منذ 2011، حينما انتقل عائدًا إلى مصر من جنوب أفريقيا من أجل الثورة. أطلق سراح جميع المتهمين في قضية مجلس الشورى إلا واحد يكاد يكمل عقوبته البالغة ثلاث سنوات. علاء يعاني لأنه علاء. لأن عقله شديد الخطورة. لأنه الطليعة. لأنه الحجة التي لا يستطيعون هزيمتها.
مازال لدى علاء عام ونصف على الأقل قبل إطلاق سراحه. حينما يخرج سيكون لديه خمس سنوات من المراقبة مما سيعني غالباً قضاء اثنتا عشرة ساعة يومية من الغروب وحتى الشروق محبوس في قسم شرطة. عشر سنوات من النوم في زنزانة.
عشر سنوات على الأقل. في 30 ديسمبر سنعرف إن كان المزيد من الوقت سيهال بداخل عقوبته حينما تصدر المحكمة حكمها على قضية أخرى يتهم فيها علاء إلى جوار أربعة وعشرين آخرين بإهانة القضاء. يواجه علاء حكمًا قد يصل إلى أربع سنوات من أجل تغريدة أوحى فيها بأن القضاة المصريون يأخذون أوامر من العسكر قائلًا إن القضاء «متحيز».
كانت إحدى تلك الجلسات هي المرة الأخيرة التي رأيته فيها.
عقدت المحاكمة طويلة الأمد بداخل أكاديمية الشرطة، تلك المنشأة الأمنية مترامية الأطراف المخفية في التجمع الخامس والمنقطعة عن العامة. ذهبت هناك في يناير 2016 بصحبة رئيسة تحرير مدى مصر لينا عطالله. بعد نصف ساعة من الاستجواب على يد ضابط صغير يرتدي بنطلون جينز وكنزة ضيقة تركنا لندخل القاعة.
حاولنا إيجاد علاء على الفور داخل المنصة المسورة التي تحتل الجانب الأيسر من قاعة الدرس المتحولة إلى قاعة محكمة ومغطاة بالزجاج العازل للصوت. كان هناك دستين آخرين من المتهمين في القضية يمثلون زملاء غير متوقعين. شخصيات قيادية في الإخوان المسلمين وسياسيين إسلاميين اتهموا إلى جوار ليبراليين من أمثال عمرو حمزاوي ومؤيد السيسي والأضحوكة التليفزيونية توفيق عكاشة، العديد من هؤلاء كان يحاكم غيابياً.
داخل القفص، جلست نسخة منكمشة من سعد الكتاتني، ذلك المتحدث المقتحم فيما مضى في البرلمان، في صمت إلى جوار محمد البلتاجي، الذي بدا وكأنه خرج من قبو من القرون الوسطي بهالات سوداء حول عينيه ولحية طويلة مشعثة. أرتدى كلاهما الأحمر، اللون المميز للمحكومين بالإعدام.
بينهم وقف علاء. حينما رآنا رفع ذراعه في ابتهاج وانفرج وجهه عن ابتسامة ضخمة بينما يهرول ناحيتنا. أمسك القضبان ولوح موجهًا القبلات للينا. في النهاية أخذت مفكرتي وكتبت له رسائل وألصقتها بالزجاج العازل. أخبرناه الأخبار الاجتماعية والشخصية عن موقع مدى مصر العربي، خطبة ابن خالته، سفريات العمل المقبلة، اطلاق الجزء السابع من حرب النجوم، إن كان يفضل أن نرسل له لازانيا مطبوخة. لازلت أحتفظ بالمفكرة وصفحاتها المليئة بكتابة عربية كبيرة عجولة مكتوبة بقلم ثقيل الخط. أشار علاء بخير ما استطاع مبتسمًا أو ضاحكًا طوال الوقت. وقف الضابط الذي استجوبنا في مؤخرة قاعة المحاكمة يرمقنا بنظرات نارية لكنه لم يفعل شيئًا لمنعنا.
كانت جلسة المحاكمة قصيرة وبلا أحداث واقتيد علاء في نهايتها بعيدًا مع الآخرين. حاولت أن أحضر المحاكمة أربع مرات بعدها لكن لم يسمح لي بتجاوز البوابة الرئيسية ثانيةً، لم أر علاء منذ ذلك الحين.
المرة الأخيرة التي رأيت فيها ماهينور كانت أقرب بكثير. رأيتها في 8 نوفمبر بداخل مبنى دار القضاء العالي حينما أيدّت محكمة النقض تأييد عقوبة علاء في قضية مجلس الشورى. أتت ماهينور مع عائلة علاء وأصدقاءه للدعم، كما تفعل دائمًا.
لم أعرف حينها أنها تحاكم بتهم مرتبطة بمظاهرة حدثت في يونيو 2017 في الإسكندرية ضد تسليم الحكومة لجزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية.
نادراً ما تتحدث ماهينور عن نفسها. لطالما تجلت طاقتها الدفاقة وقدرتها العميقة على التعاطف وشجاعتها الصلبة في السعي وراء العدالة للآخرين لا لنفسها. ولهذا صارت الهدف الرئيسي للأمن في الإسكندرية.
اعتقلت ماهينور عدة مرات وأمضت ما يزيد عن العشرين شهرًا في السجن في قضيتين منفصلتين، قضت مؤخرًا سنة وثلاثة أشهر في سجن دمنهور لتنظيم اعتصام داخل قسم شرطة محطة الرمل برفقة زملاءها من المحامين بعدما تعرض أحدهم للاعتداء من جانب الأمن. كانت الأحوال متردية في زنازين مزدحمة لا يدخلها الماء لعشرين ساعة في اليوم.
في رسائل من داخل السجن انتقدت ماهينور النظام الطبقي داخل السجن قائلة إن معاناتها لا تعتبر شيء حين تقارن بمعاناة النساء المضروبات بالفقر المحتجزات بجانبها. أطلق سراح ماهينور في أغسطس 2016.
علمت ماهينور عن الاتهامات الأخيرة ضدها بمحض الصدفة بعد شهرين كاملين من مظاهرة يونيو 2017. لم تتلق أي تنبيه رسمي من المحكمة، بل أن المحاكمة بدأت دون علمها. بدأت ماهينور في حضور جلسات محاكمتها. برفقة أربعة متهمين آخرين تواجه ماهينور تهمًا بالتجمهور والتظاهر دون تصريح والتهديد باستخدام العنف وإهانة الرئيس.
على مدار أشهر تنقلت القضية بين ثلاثة قضاة مختلفين. في 18 نوفمبر ذهبت ماهينور لتقابل القاضي المعين حديثًا للمرة الأولي. صادف ذلك اليوم ذكرى ميلاد علاء، صبيحتها كتبت ماهينور تغريدة تخاطب علاء قائلة أنها تمنت أن يكون هذا العام «معجزة»، عام يقضيه مع عائلته. «لسة بصدق في المعجزات وعارفة إن ممكن حاجة تيجي من ورا خيالنا تبهرنا» كتبت ماهينور «يا رب تبقى معانا قريب مش عارفة إزاي بس حيحصل، حب كبير يهزم أي ضلمة».
بعد عدة ساعات اعتقلت ماهينور في المحكمة برفقة المتهم الآخر، معتصم مدحت، بناءً على أوامر من القاضي تقضي بأن يتم احتجازهم حتى 30 ديسمبر حين يصدر حكمه ويحدد مصيرهم.
وهكذا عادت ماهينور للسجن.
على الرغم من أن القضية كانت في الإسكندرية، أخذت ماهينور في البداية إلى سجن القناطر في القليوبية. بعد ثلاثة أسابيع وخلال زيارة عائلية، لمحت ماهينور سارة حجازي في قاعة الزيارة. سارة هي الفتاة الوحيدة ضمن ستين شخص احتجزوا في سبتمبر وأكتوبر 2017 ضمن حملة أمنية غير مسبوقة استهدفت مجتمع المثليين في مصر. قد تواجه سارة عقوبة بالسجن المؤبد إن أدينت بالترويج للانحراف الجنسي ضمن تهم أخرى.
تابعت ماهينور قضية سارة عن قرب وحين وصلت إلى سجن القناطر قدمت طلبًا لمقابلتها. تبين فيما بعد أن سارة فعلت الشيء ذاته حين علمت أن ماهينور محتجزة في نفس المكان. سعدت الاثنتان برؤية إحداهما الأخرى وقالت ماهينور لأختها إن تذكر الناس بقضية سارة. شعرت ماهينور أن سارة نُسيت وأنها بحاجة لكل الدعم الذي قد تتلقاه. تلك هي ماهينور، نادرًا ما تتحدث عن نفسها.
حينما وصلت عائلة ماهينور لزيارتها السبت الماضي طبقاً لزيارتهم المقررة أخبرتهم إدارة السجن أنها قد نقلت. وجدوها في اليوم التالي في سجن دمنهور قرب الإسكندرية متعبةً وقد تم نقلها بدون سابق إنذار واستبقيت في زنزانة احتياطية دون طعام أو ماء أو وسيلة لدخول الحمام لما يزيد على الأربعة وعشرين ساعة.
ستبقى ماهينور في سجن دمنهور حتى حكم 30 ديسمبر.
يلوح التاريخ في الأفق لعلاء، لماهينور، لمعتصم، لمحمد رمضان، لكل الباقين. أما نحن خارج السجن فلا نستطيع التخلي عنهم. لو كان الأمر معكوسًا، لو كانوا هم الأحرار ونحن المحبوسين، لخاطروا بكل شيء من أجلنا، ولذلك السبب تحديدًا فهم أسرى.
خلال تلك الفترة القصيرة التي قضاها علاء خارج السجن بكفالة في سبتمبر 2014 تحدث في تأبين والده، المحامي الحقوقي الرائد أحمد سيف الإسلام الذي مات قبل شهر بينما اثنين من أبنائه الثلاثة، علاء وسناء، في السجن. مختنقًا بدموعه، أنهى علاء حديثه قائلًا «كل ما هو مطلوب منا أن نصر على العدالة. لا نحتاج لأن نكون منتصرين. يجب فقط أن نصر على العدالة وأن نتمسك بذلك».
دعونا لا نصمت. دعونا نصر على العدالة. ليس فقط لعلاء وماهينور، لكن لعشرات الآلاف من المعتقلين ظلمًا.
حب كبير يهزم أي ظلمة.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن