نبوءة سامر سليمان: هذا الشعب سيواجه عنفًا أمنيًا لم يعرفه من قبل! خمس سنوات على الرحيل

أذكر جيدًا اليوم الذي رأيت فيه الطبعة الأولى من كتاب سامر سليمان على أرفف مكتبة الشروق في ميدان طلعت حرب. كنت مُتخرجًا حديثًا من قسم الإعلام في جامعة عين شمس، وتخصصتُ في الصحافة الاقتصادية منذ سنوات التدريب في الكلية، وكان أكثر ما شغلني آنذاك هو الوصول لتفسير لما نعانيه في حياتنا من غلاء وبطالة وتخلف عن ركب الدول الصناعية المتقدمة.

كانت هناك عشرات الإصدارات ذات الطابع الاقتصادي التي تصرخ باسم المُعدمين والطبقة المتوسطة المتآكلة، لكن لا أحد يفسر لنا سبب هذه المعاناة، ولو حاول البعض تقديم تفسير، فعادة ما كان يحيل الأمر لخيانة السادات للمشروع الناصري، وكأن تاريخ بلد بحجم مصر يتغير على هوى الأفراد، يأتي رئيس منصف أو خائن فيحوّل مسار البلد كله من الشرق للغرب.

لم أقتنع بتلك التفسيرات، كما أني كنت، إذا حاولت إلقاء الماضي وراء ظهري، أجدني عاجزًا عن تفسير الواقع الراهن أيضًا، إذ لم أجد سببًا مقنعًا لبقاء مبارك في السلطة كل هذه السنوات؛ كيف حافظ على استقرار نسبي للحياة السياسية منذ عقود رغم معرفة الجميع أن سياساته هي السبب في معاناتهم الاقتصادية؟ الكل يردد ذلك في المواصلات العامة وجلسات الدردشة، ولكن لا مقاومة ظاهرة لهذا النظام السياسي تعكس حجم السخط على سياساته!

لذلك كان كتاب «النظام القوي والدولة الضعيفة» الصادر عن دار ميريت في عام 2004، حدثًا فارقًا بالنسبة لي. التقطته من على الرف، وكنت اعتدت وقتها على سأم باعة المكتبات مني، بسبب الوقت الطويل الذي أقضيه أمام الكتب المصفوفة والحيرة الشديدة التي تبدو عليّ، ولكنني لم أكترث بشيء، ورحت أتصفحه بنهم.

أردت أن أهتف «وجدتها!»، بعد أن تأكدت من قراءتي الأولى لعناوين الفصول أنني عثرت أخيرًا على اقتصادي يحاول تقديم تفسير متجاوز لخناقة ناصر – السادات، بل وينظر لدولة يوليو بوصفها ماضيًا مترابطًا، فهو يصدمك من اللحظة الأولى بقوله إن من اختار السادات كان ناصر، ومن اختار مبارك كان السادات!

طلبت منه حوارًا صحفيًا، والتقينا في مقهاه المفضل خلف الجامعة الأميركية، وهو ليس مقهى بالمعنى الحرفي، بل أقرب لمجموعة من الكراسي المصفوفة في ممر ضيق بين مبنى مكتبة الجامعة في ميدان التحرير وأرض فضاء «خرابة». كان سامر يفضّل الجلوس هناك وتدخين الشيشة في أوقات الاستراحة من التدريس أو من البحث في المكتبة.

أعجبتني بساطته واختلافه عن أساتذة الجامعة الأميركية الذين وجدت في بعضهم ميلًا للنخبوية أو التعالي الطبقي، وسرعان ما بدأ يشجعني على الجدال معه بطريقته السلسة، وهو مسترخ تحت أغصان شجرة وحيدة مائلة بجوار سور «الخرابة». أعتقد أنه تشبع بتلك الروح الجدلية من والده الذي كان يمر على ذكره وسط النقاش، مشيرًا لميوله الماركسية وتعرضه للتعذيب في حقبة عبد الناصر بسبب عمله السياسي مع العمال.

بدأ سامر حديثه معي بالإشارة إلى مفهوم «الدولة الرعوية»، ولم أكن أدري وقتها أن تلك «الرعوية» ستنتج تراجيديا هائلة سيعيش فيها جيلي سنوات شبابه ويعاني من مآسيها.

قال إن حازم الببلاوي كانت له تنظيرة مهمة عن استمرار الاستبداد السياسي في بلدان الخليج، حيث يرى أن هناك علاقة بين إيرادات الدولة وطبيعة نظامها السياسي، فإذا كان مصدر الإيرادات بترولًا مثلًا، فهذا يعني أن المواطنين لا فضل لهم على النظام الحاكم، فقد انشقت الأرض وأنتجت الثروة من تلقاء ذاتها، ما يُمكّن النظام من القيام بدوره الرعوي، بمعنى توزيع تلك الثروة على المواطنين وفقًا لدرجة الولاء السياسي لكل فئة.

أما إذا كان الاقتصاد ذا طابع إنتاجي، صناعي مثلًا، فهذا يعني أن مصدر إيرادات الدولة هو الضرائب التي ستُحصّلها عن هذا النشاط الإنتاجي، وهنا سيتجرأ المواطن ويسأل السلطة: بأي حق تقتطعين من أرباحي؟ من انتخبك وفوّضك للقيام بهذا الدور؟ ومن هنا تأتي الديمقراطية.

الملهم دائمًا في أطروحات سامر سليمان، والذي تمر هذه الأيام ذكراه الخامسة، أنه لم يكتف بتفسير الماضي، ولكنه نظر إلى مشروع دولة يوليو بوصفه يسير في منحدر من الأزمات السياسية، لاستناده على موارد اقتصادية تتناقص بشكل مستمر.

في كتابه، استدعى سامر تنظيرة الببلاوي بهدف إسقاطها على الواقع المصري. صحيح أن إيرادات الدولة في مصر كانت أكثر تنوعًا، ولكن إيرادات النفط ظلت تلعب دورًا مهمًا، كما أن هناك مصادر أخرى للثروة ذات طابع ريعي، أي يعود الفضل فيها للطبيعة وليس للمنتجين، مثل إيرادات قناة السويس.

كما اهتم سامر بالمنح الخارجية والتي كانت سلطة يوليو تجمعها من تحالفاتها السياسية المختلفة.

لكن المشكلة المصرية كانت أن مصادر الريع تتقلص، وأعداد السكان تتجه للزيادة، وهو ما كان يضع السلطة الرعوية في مصر أمام موقف سياسي حرج.

في هذا السياق، يقول سامر في كتابه: «بأفول الدولة الريعية، وبتآكل الدولة الرعوية، يفقد النظام السياسي المصري أحد أهم أدواته فى السيطرة. لا شك أن مصر تدخل مرحلة جديدة في تاريخها الاقتصادي والسياسي».

تحدث وقتها عن أن نظام مبارك كان مشرفًا على الإفلاس في نهاية الثمانينيات، لكن جاءت «معجزة» وأنقذته، ويقصد حرب الخليج التي أسقطت بسببها الولايات المتحدة جزءًا ضخمًا من ديوننا الخارجية. ثم تساءل: «هل يا ترى تأتي معجزة جديدة لإنقاذه إذا ما تفاقمت الأزمة المالية لهذا النظام مجددًا؟»

لكن رغم تلك الضغوط، كان نظام مبارك مستمرًا، بفضل ما سمّاه «الدعم السلبي». ويُقصد بهذا الاصطلاح التأييد الذي كان النظام يحظى به من طبقة الموظفين، بفضل اهتمامه بالإنفاق على الأجور الحكومية، وإن لم يكن هذا الإنفاق سخيًا للدرجة التي تجعل الدعم «إيجابيًا».

كما رأى سامر أن اهتمام مبارك بالإنفاق على الأجور الحكومية مكّنه من تخفيض الدعم دون التعرض لسيناريو احتجاجات 1977، فما قّدمه للموظفين من علاوات باليد اليمنى أخذه منهم باليد اليسرى، في صورة تخفيض لفاتورة الدعم. هذه هي المعادلة التي فسّر بها نجاح مبارك في الاستمرار في السلطة دون التعرض لأزمة مالية أو لخلع الشعب له.

كما أن نفقات الهيمنة كذلك ساعدت مبارك على ترسيخ بقائه في الحكم. واهتم سامر باستعراض تلك النفقات، من واقع تحليله لميزانيات الأمن والسلاح، وكذلك الهيمنة الأيديولوجية من خلال الإنفاق على وزارتي الثقافة والأوقاف.

بعد صدوره، نظّمت الجامعة الأمريكية ندوة لمناقشة كتاب سامر. وأذكر أنه تحدث وقتها عن أن نظام مبارك كان مشرفًا على الإفلاس في نهاية الثمانينيات، لكن جاءت «معجزة» وأنقذته، ويقصد حرب الخليج التي أسقطت بسببها الولايات المتحدة جزءًا ضخمًا من ديوننا الخارجية. ثم تساءل: «هل يا ترى تأتي معجزة جديدة لإنقاذه إذا ما تفاقمت الأزمة المالية لهذا النظام مجددًا؟»

دار هذا الحديث في ذروة صعود مشروع جمال مبارك، حيث كانت معدلات النمو الاقتصادي في ارتفاع مستمر، والأجانب يجولون في المؤتمرات الاقتصادية متسائلين بشغف عن فرص الاستثمار الجديدة. وبرغم هذا الرواج، ظلت المشاكل المالية المزمنة لدولة يوليو مستمرة، من حيث الارتفاع النسبي في عجز الموازنة والدين العام واستمرار الضغوط التضخمية.

ومع تزايد الاختناق المالي، لم يجد مبارك مفرًا من تطبيق إجراءات غير شعبوية، محاولًا تكرار نفس المعادلة التي شرحها سامر في كتابه، حيث رفع الأجور الحكومية في موازنة 2007 – 2008 بمعدلات أعلى من المعتاد، وفي نفس الوقت قلّص من دعم الوقود.

لم تكن الأقدار هذه المرة في صالحه، فنظام يوليو الاقتصادي كان هشًا للغاية، ومع دخول الاقتصاد العالمي في الأزمة المالية العالمية، لم يعد النظام قادرًا على تحقيق نفس معدلات الاستثمار الأجنبي التي سجّلها في سنوات الانتعاش، كما فاقم التباطؤ الاقتصادي من مشاكله المالية المزمنة.

في 2010، بدا الوضع وكأنه مقدمة لأزمة مالية واجتماعية في مصر، في ظل طول أمد التباطؤ الاقتصادي العالمي واضطرار السلطة للتخارج من منظومة الدعم القديمة دون خلق نظام اجتماعي جديد، أو حتى اقتصاد قادر على خلق الوظائف الكافية. هكذا وقع مبارك في أزمة كبيرة ولم يجد «معجزة» جديدة تنقذه.

التقيت بسامر مرات عدة خلال ثورة يناير، في مرة منها أهداني نسخة جديدة من كتابه، بعد إضافة تقديم عن الثورة التي جاءت متسقة تمامًا مع تحليله لأزمة نظام يوليو، ومرات وهو يؤسس لتجربة اليسار الديمقراطي التي كان يطمح إليها طوال حياته، من خلال «الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي». وفي كل المرات التي التقيته فيها كان في منتهى الوهج والحماس، وكأنه يرى كل أحلامه تتحقق أمام عينيه، في تلك الأيام التي سقط فيها «النظام القوي» تحت أقدام بسطاء المصريين، وعلت الأصوات المطالبة بإصلاح «الدولة الضعيفة» بالعدل الاجتماعي.

لم يكن مستغرَبًا إذن أن تكون أكثر مراحل سامر توهجًا هي سنوات الثورة، فالرجل كان شديد الارتباط بالشأن العام المصري. وصحيح أنه أنهى رسالة الدكتوراه في أوروبا، لكنه رأى أنها ستكون بلا قيمة إذا لم تُترجم للعربية وتُنشر بين المصريين.

قبل الثورة، حاول سامر بكل السبل تحريك الماء الراكد، وجذب الناس للاهتمام بالسياسة، فشارك في إصدار مجلة «البوصلة»، ثم في تجربة جريدة «البديل» التي قال لي إنها تجسّد أحد أكبر أحلام حياته.

وكان لقائي الأخير معه، قبل أسابيع من رحيله، مناقضًا لأجواء لقائي الأول به، رغم أن اللقاءين كانا على مقهى في وسط البلد، لكن في المرة الأولى كان سامر يجاهد معي، ومع كل من يلتقي به، لتشجيعنا على الاهتمام بالسياسة، أما في المرة الأخيرة فقد كانت مصر كلها مهووسة بالجدال السياسي، في ظل انعقاد أول انتخابات رئاسية ديمقراطية بعد ثورة يناير.

كانت تلك آخر نبوءات سامر؛ رأى أن الريع الخليجي سيعود من جديد لإحياء ديكتاتورية يوليو. والمفارقة الكبرى كانت أن صاحب نظرية الدولة الريعية، حازم الببلاوي، كان هو من تولى الوزارة التي أعادت الريع لإحياء نظام يوليو من جديد

بدا سامر لي، في لقائه هذا به، في حالة مزاجية غير رائقة. سألته، وكان المناخ مشبعًا بالرطوبة وصخب المارة يحيط بنا من كل جانب: هل يمكن لأي من المرشحين تحقيق الوعود الاجتماعية للثورة، خاصة وأن سنوات الاضطراب التي تلت 2011 جعلت الوضع المالي للدولة أسوأ مما تركه مبارك. فردَّ أن الخليج لن يترك مصر لحالها، وإنما سيتدخل حتمًا لمساندة مرشح يدافع عن مصالحه في مصر.

كانت تلك آخر نبوءات سامر؛ رأى أن الريع الخليجي سيعود من جديد لإحياء ديكتاتورية يوليو. والمفارقة الكبرى كانت أن صاحب نظرية الدولة الريعية، حازم الببلاوي، كان هو من تولى الوزارة التي أعادت الريع لإحياء نظام يوليو من جديد.

خرجت علينا الحكومة الليبرالية التي عُيّنت بعد أحداث 30 يونيو 2013، لتنشر أوهامًا عن عودة الإنفاق الاجتماعي لمستوياته المعتادة؛ ستنتهي أزمات انقطاع الكهرباء ونقص البنزين، وستطبّق الدولة تعريفة موجّهة للأسعار في الأسواق.

لكن الواقع كان أن الأرض تتمهّد لإنهاء العقد الاجتماعي لنظام يوليو تمامًا، وإن كان ناصر أخذ من الناس الديمقراطية في مقابل قدر من الحماية الاجتماعية، فإن تلك الحماية تآكلت تدريجيًا في العهود التالية، فقد جاءت ميزانية 2014-2015، بعقد جديد ينهي، بشكل متسارع، العديد من أنماط الحماية الاجتماعية، كما يحافظ في الوقت نفسه على ديكتاتورية يوليو السياسية.

صحيح أن الرجل رحل قبل أن يتم الخمسين من عمره، لكنه استطاع قراءة المستقبل القادم بعد رحيله ويدوّنه في كتابته بقدرة مذهلة على التبصر والاستشراف. قبل أيام، كنت أقلّب في أرشيفه وقابلتي هذه العبارة التي كتبها في مقال له في عام 2006، والتي يمكنني اختتام مقالي بها:

«لقد انتهى شهر العسل الذي أمضاه الشعب المصري مع نظام يوليو، والذي تميّز بدرجة عنف محدودة، وعلي هذا الشعب أن يواجه عنفًا أمنيًا لم يعرفه من قبل، وهو ما يحدث لكل النظم السياسية في مراحل أفولها وشيخوختها. فليلطف رب العباد من وطأته على المساكين من شعبنا».

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن