هل تعبر المؤشرات الاقتصادية عن الواقع؟

في الأعوام الماضية، وكنتيجة طبيعية للاضطرابات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، زاد الاهتمام الشعبي والصحفي بتحليل الأداء الاقتصادي للدولة، باستخدام مجموعة مؤشرات اقتصادية ومالية متنوعة.

كثير من الصحف والمسؤولين والأفراد استخدموا مصطلحات وأرقام مثل «معدل نمو الناتج المحلي» (وهو المؤشر الاقتصادي الكلاسيكي والأكثر استخدامًا)، أو «معدل التغير في نسبة البطالة» أو «احتياطي النقد الأجنبي» أو «مؤشر البورصة» أو «سعر صرف الدولار» أو «تدفق الاستثمار الأجنبي»، دليلًا على تحسن الأداء الاقتصادي المصري أو تدهوره. فبالإضافة لصعوبة تلك المفاهيم على المواطن العادي، فإن المشكلة تزداد تعقيدًا حين تتضارب تلك المؤشرات مع بعضها أو تتضارب مع إحساس المواطن. فإذا تصفّحنا، على سبيل المثال، بعضًا من عناوين الأخبار في شهر يوليو الماضي مثلًا، سنجد الآتي:

«رئيس الوزراء: تحسن «طفيف» في معدلات النمو بفضل الإصلاح».

«توقعات بوصول معدل نمو الاقتصاد المصري 4% في 2017- 2018».

«البورصة تربح 2.6 مليار جنيه بعد مرور نصف ساعة من بدء جلسة التداول».

«ارتفاع معدل التضخم في مصر «بواقع 31 في المئة» في نصف العام».

كل هذا كان مقرونًا بإحساس عام بالتدهور الاقتصادي في ظل زيادة التضخم والأسعار وتأثيرهما على مستوى المعيشة.

فهل نمو الاقتصاد هو الغاية المرغوبة من الإصلاحات الاقتصادية؟ ولماذا تتضارب المؤشرات؟ هل تكذب الأرقام؟ وبشكل أعم: ما هو المؤشر السليم لتحليل الأداء الاقتصادي؟

الحقيقة هي أنه لا يمكن استعمال مؤشر واحد منفردًا لتقييم الأداء الاقتصادي ككل.

تاريخيًا وعالميًا، كان المؤشر الأكثر استخدامًا هو معدل نمو الناتج الإجمالي. فبعد الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، شرع الاقتصاديون في الاعتماد بشكل أساسي على مؤشر «الناتج القومي الإجمالي»، وهو تقدير إجمالي قيمة السلع والخدمات التي تُنتج من موارد مملوكة من قبل سكان منطقة معينة في فترة زمنية ما، وذلك بهدف تحليل الأداء الاقتصادي. زادت أهمية «الناتج القومي الإجمالي» بعد الحرب العالمية الثانية حتى بدايات العقد التاسع من القرن الماضي، قبل أن يجري إبداله بـ«الناتج المحلي الإجمالي»، وهو تقدير إجمالي قيمة كل السلع والخدمات التي تُنتج في دولة ما خلال فترة زمنية محددة، بغض النظر عن الملكية، على عكس الناتج القومي الإجمالي.

كان الاعتقاد السائد أن الناتج الإجمالي هو مؤشر دقيق لحالة الاقتصاد، وأن النمو السريع يتناسب طرديًا مع نمو في رخاء المواطنين وارتفاع مستوى معيشتهم. قام ذلك الاعتقاد على أن الأسواق الرأسمالية فعالة في توزيع الثروات، وهو ما يسمى بـ«نظرية تساقط الثمار.. Trickle-down economics»، أي أن الزيادة في الناتج الإجمالي لدولة تعني بالضرورة ارتفاع مستوى ثروة مواطنيها ومعيشتهم بشكل شبه عادل. وهو ما ثبت عكسه في العقود الأخيرة، وبشكل واضح بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة. فمع توافر البيانات الإحصائية بشكل أكبر من الفترات السابقة، بدأ الباحثون في تحليل شامل لمعايير اقتصادية واجتماعية مختلفة، وبفضل تلك المجهودات، تمكننا من تصحيح مفاهيم راسخة، منها الاعتقاد البالي بأن النمو الكمي للاقتصاد كاف لزيادة الرخاء بشكل عادل، أو أنه مؤشر جيد على حالة الاقتصاد.

في فبراير 2008، بمبادرة من رئيس الجمهورية الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، تشكلت لجنة لبحث طرق قياس الأداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، ورأستها مجموعة من ألمع الاقتصاديين، منهم أمارتيا سن، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 1998، وجوزيف ستيجليتز الحاصل على نوبل في الاقتصاد في عام 2001. أصدرت اللجنة تقريرًا وافيًا في سبتمبر 2009 يوضح خطورة الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي منفردًا، ضاربة مثالًا بمعدلات النمو الصحية للاقتصاد الأمريكي قبل الأزمة العالمية، والتي فشلت الأدوات الإحصائية التقليدية في التنبؤ بها.

الاستتناج الأهم للتقرير هو أن النمو الكمي للاقتصاد لا يعبر بالضرورة عن حالة الرخاء ومستوى المعيشة. أي أن زيادة الإنفاق على السلع والخدمات لا تعني بالضرورة ارتفاعًا في معدلات الرخاء بنفس النسبة. فعلى سبيل المثال، ستؤدي زيادة الإنفاق على الجيش في حالة الحرب إلى ارتفاع في الناتج المحلي، لكن دون تغير إيجابي في مستوى المعيشة. كذلك، فإن زيادة الإنفاق على منظومة الصحة ستؤدي إلى زيادة الناتج المحلي، حتى وإن لم يجنِ المواطن ثمار تلك الزيادة.

و قد يتذكر البعض إشادة صندوق النقد الدولي، مستدلًا بمعدلات النمو الاقتصادي، بالإصلاحات الاقتصادية في مصر وتونس قبل ثورات الربيع العربي، وتوقعه ترجمة ذلك النمو إلى رخاء أو «نمو شامل.. Inclusive growth» غير أن ما حدث بعد ذلك معروف للجميع. حيث النمو، بسبب انعدام المساواة والفساد، قد يذهب إلى عدد قليل من الأشخاص والمجموعات دون أن يشعر به المواطن العادي.

وعلى نفس المنوال، سيؤدي استخدام أي مؤشر اقتصادي منفردًا إلى قصر نظر شديد. فعلى سبيل المثال، نجد بعض الصحف تبرز ارتفاع مؤشر البورصة، أو انخفاضه، دليلًا على تحسن في الاقتصاد، أو تدهور فيه، مستخدمة تعبير «البورصة المصرية تربح» أو «تخسر»، رغم عدم دقة التعبير، حيث ارتفاع مؤشر البورصة أو انخفاضه، يمثلان ربحًا أو خسارة في القيمة السوقية الإجمالية للأسهم المطروحة في البورصة، المملوكة لأفراد أو جهات، فيما لا تمثلان تغيرًا فعليًا حقيقيًا بنفس المبلغ في جيوب المستثمرين. هذا مؤشر لا يرتبط بالضرورة بالحالة العامة للشعب المصري، بل بالتوقعات لما سيجري في المستقبل في أداء الأسهم، والشركات التي تمثلها.

كذلك، فإن نسبة البطالة وحدها لا تعكس الصورة كاملة، حيث قد تنخفض النسبة إذا فقد متعطلٌ الأملَ أو الرغبةَ في التوظف، ليقرر ترك سوق العمل تمامًا. بالإضافة لأن زيادة الاحتياطي النقدي ليست بالضرورة مؤشرًا على تحسن الأداء الاقتصادي، في حالة ما إذا كان مصدر تلك الزيادة هو الاستدانة.

تعتمد قراءة المؤشر الاقتصادي بشكل سليم على فهم طريقة قياسه، والتأكد من دقة البيانات المستخدمة والسياق العام، وهو ما لا يتوفر بسهولة لغالبية المواطنين غير الدارسين للاقتصاد.

ينقلنا هذا إلى سؤال آخر: إذا كانت المؤشرات التقليدية تفشل في نقل الصورة كاملة، فكيف يمكننا تقييم الأداء الاقتصادي للدول؟

على مدار العقود الأخيرة، وبشكل تدريجي تسارع كثيرًا بعد الأزمة المالية في 2007-2008، بدأ الخبراء في البحث عن بديل لاستخدام مجموعة المؤشرات الإحصائية التقليدية المحدودة.

الاتجاه السائد هو الاعتماد على لوحة تحكم تشمل فئات مختلفة من المؤشرات المالية وغير-المالية. حيث نلاحظ اهتمامًا حديثًا بمؤشرات مثل معدلات «عدم المساواة.. Gini Coefficient» التنمية المستدامة، جودة الصحة، والتعليم والبنية التحتية، بالإضافة إلى مجموعة المؤشرات المالية التقليدية مثل متوسط دخل الفرد، الدين الداخلي والخارجي، معدل التضخم، البطالة ونسبة المشاركة في سوق العمل وغيرها. يسهم تحليل تلك المؤشرات المختلفة في تحليل شامل إلى حد كبير لحالة الاقتصاد ومدى تأثير تلك المتغيرات على حياة المواطن وازدهاره. ففي الولايات المتحدة، بدأت جانيت يلين، رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي (وهو ما يوازي البنك المركزي في مصر) في توسيع نطاق المؤشرات المستخدَمة إيمانًا منها بأهمية تحليل الصورة كاملة.

على نفس المنوال، تصدر الحكومة الإنجليزية تقريرًا سنويًا، اعتمد في 2017 على 43 مؤشرًا، لقياس التغيرات في حالة الرخاء ومستوى المعيشة. بالإضافة لوجود محاولات مختلفة للوصول إلى فهرس أو مؤشر جامع لكل تلك الجوانب، منها على سبيل المثال «تقييم التنمية الاقتصادية المستدامة.. Sustainable Economic Development Assessment»، أو «مؤشر التنمية البشرية.. Human Development Index».

***

قد يتساءل البعض عن أهمية طرح ذلك الموضوع في الوقت الحالي؟

يؤدي استخدام المؤشرات الصحيحة إلى اهتمام المسؤولين بتأثير قراراتهم على تلك المعايير المدروسة. فإذا كنا نهتم بقياس معدل النمو بشكل أساسي، فإن أغلب القرارات ستُتخذ لدفع عجلة النمو دون الاهتمام بالضرورة بعدالة توزيع الدخول أو حالة البيئة. لكن إذا اهتممنا بمجموعة شاملة من المعايير، سنتمكن حينها من تحديد آثار المبادرات والقرارات المختلفة على حياة المواطنين وضمان اتخاذ قرارات تساهم في تحسين تلك المعايير المختلفة.

على المستوى المحلي، لاحظنا تركيزًا مكثفًا في الفترة السابقة على معدل النمو، وتحديدًا بعد إعلان البنك الدولي عن توقعات معدلات النمو في الأعوام المقبلة، واستخدام البعض لتلك الأرقام دليلًا على جدوى مبادرات الإصلاح الاقتصادي التي كان لها تأثير سلبي متوقَّع على مستوى المعيشة.

فإذا كنا نطلب من المواطنين التضحية في المدى القصير والمتوسط من أجل المصلحة العامة على المدى الطويل، فلا بد من تقييم نتائج تلك المبادرات الإصلاحية والتضحيات المصاحبة لها بشكل دقيق. حيث ينسى البعض، أو يتناسى أن تقييم الأداء الاقتصادي في فترة ما ليس غاية، وإنما وسيلة لتقييم تأثير سياسات الحكومة والمتغيرات السوقية على حياة المواطنين ورخائهم. لذلك لا بد من ضمان أن تهدف سياسات الدولة الاقتصادية لتحسين حياة المواطنين ورخائهم، وليس زيادة معدل النمو فقط.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن