«غذاء للقبطي»: لعبة كتابة .. بين المطبخ والكنيسة
 
 

«قضيت طفولتي وجزءًا من مراهقتي متوغلًا في المجتمع القبطي، قبل أن أنضج خارجًا عنه. فقط كما تسقط الثمار فور ما تنضج تاركة شجرتها، تنفصل عنها وتبدأ دورة جديدة بغير ارتباط سري بجذورها. هكذا خلعت عن المجتمع الكنسي وأنا لا أحمل من تاريخ ارتباطي به سوى ذكريات جيدة، وقدر من المدخلات غير المفيدة على الإطلاق».

يستهل شارل عقل، مقدمة كتابه «غذاء للقبطي»، بتقرير شخصي جدًا عن علاقته بالمجتمع القبطي والكنسي، والذي مع إيجازه، يزخر بصور متراكبة وكثيفة تسترعي الانتباه. ففي ثلاثة جمل لا أكثر، يلح شارل على فكرة القطيعة، مرة بعد أخرى، وبكل تعبير لغوي ومخيال ممكن: النضوج، والسقوط، والترك، والانفصال، والبداية الجديدة، وفك الارتباط بالجذور، وقطع الحبل السري، والخلع، والماضي الذي لا يبقى منه سوى ذكريات، وقدر من الأشياء «غير المفيدة على الإطلاق».

لكن كل تلك الصور مع كثافتها، تحمل قدرًا لا بأس به من التوتر، فإلى أي مدى تظل الثمرة «قبطية» حتى مع نضوجها وسقوطها من الشجرة، وتصبح الذكريات جزءًا من الحاضر؟  ويظل الابن ابنًا بعد قطع الحبل السري مع أمه؟ بل ولماذا يجد الكاتب نفسه معنيًا في افتتاحية كتاب، تصفه مقدمته بأنه عن «المطبخ»، أن يقرِّر علاقته الذاتية بالمجتمع القبطي والكنيسة؟ وبكل هذا الإلحاح على فكرة القطيعة؟

يتوجب الاعتراف بأن تلك الأسئلة ربما تُفرِط في إثقال جمل الافتتاحية بمعاني أبعد مما تحتمل. وتبالغ في فهم الاستعارة الجمالية، بشكل حرفي، إلا أن ذلك الإفراط يبدو مناسبًا كمدخل لقراءة كتاب، موضوعه هو«مطبخ المبالغات» القبطي، مبالغة «التقشف والزهد»، ومبالغة «الإفراط والترف» في آن واحد، ولائًقا بإلحاح كاتبه على التلاعب بسؤال المجاز والحرفي مرة بعد أخرى، في رمزية «السمكة» في النص الإنجيلي، ومعنى «القلقاس» في التقاليد الشعبية القبطية، وإشكالية مكسبات الطعم في «شيبسي الكباب»، ومجازات الملح والخل وغيرها.

ومن الواجب أيضًا، الإقرار بأن تلك المبالغة تتعلَّق بي، كما تتعلّق بالكتاب نفسه. فمنذ فترة ليست بالقصيرة، أصبحتُ مشغولًا بسؤال صورة الأقباط في الثقافة العامة، أي كيف يظهر الأقباط في السينما مثلًا؟ ومن يكتب عنهم ولهم ونيابة عنهم أو باسمهم؟ ولماذا تظل تلك الصور محصورة في معظمها في خطابات سياسية عن الاضطهاد أو الوطنية وحقوق المواطنة؟ وكيف يمكن لغير القبطي أو القبطي نفسه أن يفهم ما يعني أن تكون قبطيًا، شخصًا من دم ولحم، له خبرة حياتية حميمة، لا مجرد موضوعًا للاضطهاد والشفقة، أو قسًا يعانق الشيخ في الأفلام، أو وحدة للتعريف القانوني؟ وبالأولى هل هناك حقًا نسخة واحدة لأن «تكون قبطيا» أم نسخ عديدة، وماهي؟

يتصدَّى «غذاء للقبطي»، سواء عن تعمُّد أو دونه، لكل تلك الأسئلة، أو على الأقل معظمها، فالكتاب الذي يعِدنا بأنه عن المطبخ، يلتزم بوعده بهذا الشأن تمامًا، فيقدِّم بالفعل، أي والله، خطوات دقيقة لتدميس الفول مثلًا، وطرق متنوعة لإعداده، ووصفة سهلة للمكرونة البشاميل، وشواء السمَك، وإعداد لحم الخنزير، وغيرها. لكن بين تلك المذاقات والروائح، وتاريخها ومجازاتها والصراع عليها أو من أجلها، يقدِّم شارل لنا خليطًا من حواديت شخصية، وروايات عائلية، وتحوُّلات اجتماعية وتاريخية جمعية، تظل شديدة الحميمية والكشْف، عن معنى أن تكون قبطيًا.

فالكتاب عن المطبخ فعلًا، لكنه أيضًا عن الكاتب نفسه وشجرة المجتمع القبطي، وخبرة السقوط منها، بفعل «كرة الثلج»، التي بدأت بلحظة «تألٌّق وجودي» أمام طبق للمكرونة الباشميل باللحمة المفرومة، وتدحرجت بعجلة، لتنتهي بالعصف بكل أفكار الكاتب ومعتقداته خلال أيام، لا أكثر، وإن ظلت تحتاج «عَمْرًا لفهمها».

المطبخ وحده، كفيل بالتفريق بين الحلال والحرام، ما يليق وما لا يليق، ترويض الجسد وإطلاق الغرائز، وإرساء أساس «للدفء العائلي وارتباط بالثقافة المحلية»، وتعيين العلاقة بين الملكوت السماوي والنظام الغذائي، وبين المعمودية المسيحية والقلقاس، فطبق الفول الذي تعدُّه الأم طقس أخلاقي للتقشف، بينما فول ومنتجات دير ماري مينا تحل فيهم «الأمانة» المسيحية بدلًا عن قوانين السوق، والبيتزا الصيامى تبدأ مراوَغة لإحلال البيتزا، وتنتهي في مخبز «ثري إم» بديلًا عن القربان الكنسي نفسه.

يمتد المطبخ إلى مخابز «المستوطنات المسيحية» و «المجتمعات الثانوية الطفيلية» حول الكنائس، و«الأسواق البديلة» للأديرة، والحروب الصغيرة في رمضان في أماكن العمل، بين «صيامنا» و«صيامهم»، ويصل إلى حقائب المدرسة، وسندويتشاتها،«فنوع الخُبز ومحتواه، وعدد السندوتشات، كلها رموز وإشارات خفية تحدِّد بها الأم وضع ابنها النفسي، وكادره الاجتماعي والاقتصادي».

يقفز الكتاب بلا هوادة بين الجد والهزل، منتقلًا من مسح لـ«ديمغرافية الصناعات الغذائية»، والحسابات الدقيقة والمعاني المتضمنة في تصفيق الحاضرين لقدَّاس العيد، إلى تأملات في أقوال آباء الكنيسة عن «السي فود»، وجدل لاهوتي وكيميائي عميق عن «شيبسى الكباب» الذي من الممكن أن يَعِد بحياة أبدية أو يودي بآكله إلي الفناء.  ثم يأتي سجق الأنبا شنودة ليختم معضلة لاهوتية، ونصًا مطولًا عن صناعة المنتجات العضوية.

يحملنا شارل إلي نشأة المسيحية التي أحاطتها «الطواجن السنجاري» و«العزومات الإلهية» على السمك المشوي والرنجة. ويكتب مقطعًا مطولًا في مديح شراب «الزبيب»، يعقبه «تمثيلًا مشرفًا لمجلس الخمر»، مفسّرًا ما يحدث تاريخيًا للقبطي بوصفه «هانج أوفر طويل»، ليصل بنا إلى التسامح «المفخَّخ بالعدواة والعجرفة» الذي ينفجر في مذبحة الخنازير عام 2009، قبل أن يقدم شرحًا لدور حمض اللاكتيك في عملية «التخليل» مصحوبة بتأملات روحية عن رمزية الملح الإنجيلية.

«إذا نزعت القابس عن الهالة المقدسة، فلن ترى سوى غرفة توحي جميع مكوِّناتها بالانقراض والزوال وتقلُّص اجتماعي متفاقم يشرِف على النهاية، وفقر واضح في الحياة والتجربة وانعدام القدرة على صنع ذكريات طازجة …فتجد أفضل ما يمكن فعله حينذاك هو التمتع بأكثر المتع مباشرة ووضوحًا وأكثرهم توافرًا وقبولًا في ذلك المحيط القبطي».

في الفصل الأخير من الكتاب، والذي يعِدنا فيه الكاتب بأن يختم «بنغمة متفائلة»؛ يصل بنا في وصف مائدة العيد وطقوسها إلى صورة قاتمة، عن المحيط القبطي، والتي لا فكاك منها سوى بأن «تدفن رأسك في طبق ملوخية وورك ديك…أبسط المتع وأوضحها».

يتضح في النهاية دافع تلك القطيعة الملحَّة التي بدأ بها الكتاب. ففكرة «الانتماء» التي يبغضها الكاتب، لا تبدو سوى «تورطٍ» سلبي وغير منحازٍ، يجبِر صاحبه بسبب ثقل أكلة العيد، والفتة التي تُعجِز الجسد عن مبارحة الكنبة، أن يصبح جزءًا من طقس مشاهدة قداس العيد في التلفزيون، بكل عجائبيته وركاكته.

هكذا ففيما يمتعنا عقل، بألعابه السردية شديد الثراء والخفة، وهزلها اللاذع، الذي لا يمكن معه التوقف عن الضحك من صفحة إلى أخرى، فإن «غذاء للقبطي«لا يكتفى بتقديم نُسخًا عديدة ومتناقضة وشديدة الكاريكاتورية لمعنى أن تكون قبطيًا، نسخًا مثل «القبطي المتأسلم»، و«الثوري»، و«المتشدِّد»، وغيرها، ولا يقتصر على السخرية من نماذج لـ«عقدٍ» وهوياتٍ قبطية «رمادية» مجبَرة على التحايل والمراوغة والاختفاء والإنكار، دائمًا، بل يضعنا أمام معضلة الإفلات من هذا كله، والتحرر من فخ التورط فيها. معضلة يبدو حلها عصيًا في كل الأحوال، لكن يظل العزاء الوحيد، الذي يقدِّمه لنا الكتاب في شأنها، هو أن «القلقاس ثابت والتاريخ متجدِّد ومتغير».

«غذاء للقبطي» من إصدار «الكتب خان» (2017)، سلسلة «بلا ضفاف»، المعنية بنشر التجارب الأدبية الخارجة عن التصنيفات المتعارف عليها من قصة ورواية وشعر ومقال.

اعلان
 
 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن