جواهر السينما المصرية: شيء من الخوف
 
 

يمكنكم الاستماع للمقال هنا:

للاستماع إلى المزيد من المقالات، يمكنكم الاشتراك في خدمة «صفحات صوت» إما من خلال الموقع أو تطبيق آبل بودكاست.

يحمل فيلم حسين كمال الذي عُرض في عام 1969 نفس اسم رواية ثروت أباظة «شيء من الخوف» المأخوذ عنها، والصادرة في 1967. هي رواية خالدة عن قسوة الدولة والفساد السياسي والخوف الجماعي الناجم عن ذلك. وإلى جانب خلود الرواية فهي تتسم أيضًا بخصوصية زمنية، فقد عُرض الفيلم بعد عامين من الهزيمة العربية في عام 1967، تلك الهزيمة التي أثّرت بعمق على السياسة والمجتمعات العربية.

في مصر أدّت النكسة، التي فقدت فيها كل من مصر وسوريا وفلسطين أجزاء من أراضيها لصالح إسرائيل، إلى خلخلة نظام جمال عبد الناصر الذي حكم على مدار عقد سابق لها، بفضل التحرر من الاستعمار والوعد بإنشاء دولة مستقلة وحديثة.

في بدايات خيالاتها ما بعد الاستعمارية في أول الخمسينيات، قامت الدولة القومية على مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والانتماء الفعّال لسياق إقليمي أوسع، هو العالم العربي. إلا أن إمكانية تأسيس مثل تلك الدولة القومية اعتمدت على جهاز أمني لا يعرف الهوادة، جهاز أسكت الأصوات المعارضة من خلال الاعتقال والتعذيب، وفرض رواية دولتية وحيدة على الإعلام والرأي العام. وكان تأميم السينما المصرية في الخمسينات أحد الأمثلة على كيفية تخلل رواية الدولة في مختلف أشكال الإنتاج الفني لصالح المزيد من ترويج رؤية عبد الناصر لدولة قومية جديدة.

ثم جاءت 1967 لتعطل كل ذلك، حيث ولدت الهزيمة شعورًا جمعيًا بخيبة الأمل في مشروع عبد الناصر، الذي جرى الترويج له باعتباره حلمًا.

***

ينتمي فيلم «شيء من الخوف» إلى تلك اللحظة السياسية والسينمائية، كما ينتمي إلى حركة احتجاجية محدودة في الإنتاج السينمائي، حركة تناولت مواضيع متعلقة بالديكتاتورية والاستبداد والثورة من خلال روايات في الريف المصري؛ نفس ذلك الريف الذي انتصر له عبد الناصر من خلال إصلاحاته الاجتماعية.  وفي حين كانت تلك الأفلام أعمالًا سياسية مباشرة تعبر عن السخط على الواقع المعاش، كانت كذلك مظاهر للتجريب السينمائي لقدرة الشكل على إيصال رسائل مشحونة بالسياسة، على الأقل من خلال رخصته الجمالية، مثلما في فيلم «الأرض» (1970) ليوسف شاهين، و«الزوجة الثانية» (1967) لصلاح أبو سيف. بحسب التغطية الإعلامية في ذلك الوقت، مُنع الفيلم في البداية بواسطة جهاز الرقابة، الذي رأى فيه تجسيدًا لحكم عبد الناصر في مصر، إلا أن عبد الناصر، بعد أن شاهده في منزله الخاص، ورغم انشغاله بإدارة أزمة ما بعد الهزيمة، سمح بعرضه قائلًا إنه إذا كان هو المقصود بعتريس، بطل الرواية، فهو يستحق ما انتهى إليه.

السيناريو واحد من أبرز عناصر فيلم كمال، وكتبه، مع الحوار، الشاعر الأيقوني الراحل مؤخرًا عبد الرحمن الأبنودي، ووضع ألحانه بليغ حمدي (وهو رمز آخر في حد ذاته)، ما جعل الفيلم يكاد يكون عرضًا موسيقيًا.

بداية من الأسماء في تتر الفيلم، والمرسومة على حائط بصحبة صور لسكان ريفيين يملأ الخوف عيونهم، نبدأ في التعرف على  قصة قرية الدهاشنة من خلال الأغنية القوية، والتي تستمر في المشهد الأول في تعريفنا بالشخصيات: الجد (قام بالدور محمود مرسي، الممثل الموهوب الذي لم يلق ما يستحق من التقدير)، وهو شرير تقليدي وكابوسي، وعتريس، حفيده الصبي الهادئ الطيب الذي يربي حمامة.

نعرف مبكرًا أن عتريس مغرم بفؤادة، إحدى بنات القرية التي تتميز بالشجاعة والذكاء. يصر الجد على أن يشتد عود عتريس ليستكمل موقعه ككبير القرية. «لو ماكنتش صقر هياكلوا لحمك، هينهشوه، هيحاوطوك زي الديابة، أنا عايزك وحش، عايز أحكم بيك الدهاشنة بعد ما أموت» يقول الجد لعتريس بعنف في لقطة قريبة بعد أن ذبح الحمامة أمامه.

تمر السنوات، ونلتقي عتريس وفؤادة وقد كبرا، حيث يلعب محمود مرسي أيضًا دور عتريس، وتلعب دور فؤادة المغنية شادية، في واحد من أبرز أدوارها في تاريخها السينمائي كممثلة. يواصل عتريس كونه جزءًا من الدائرة المقربة لجده، إلا أنه لم يفسد بعد، وتخبره فؤادة أن اللحظة التي سيصبح فيها قاتلًا ستكون اللحظة التي يفترقان فيها.

وتأتي هذه اللحظة. بعد مقتل جده، يصبح عتريس حاكم القرية وفتوتها الذي يملأه غضب يتجاوز حتى قسوة جده.

***

مشهدان في الفيلم يمثلان طعم الخوف، وعادة ما يجري استحضارهما، بسبب الرسالة السياسية القوية لهما، إضافة إلى العرض السينمائي الغنائي الذي صاحبهما وحولهما إلى رمز.

على عكس سائر القرية التي تخاف عتريس وعصابته، تقف فؤادة متحدية عتريس وعصابته، وتشجع الآخرين على نفس الموقف. في أحد أهم المشاهد الرمزية في الفيلم، جفّف رجال عتريس ترعة القرية، وبينما جلس كل سكان القرية في حالة يأس، أمسكت فؤادة محبس هويس المياه لتفتحه في لقطات قوية متتالية، كانت مقابلة للقطات لاحتفال القرويين، في حين تسيل المياه ببطء لتروي أرضهم. كل هذه اللقطات المليئة بالتحدي نشاهدها بالأبيض والأسود، رغم إمكانية إخراجها بالألوان. سيصبح هذا المشهد المتمحور حول فؤادة واحدًا من أهم معالم الحركة النسوية المصرية وآثارها في السينما، تلك الصناعة التي تميزت إما بتلميحات فارغة للخطاب النسوي أو بالمعاداة التامة للنساء.

يحمل فيلم حسين كمال الذي عُرض في عام 1969 نفس اسم رواية ثروت أباظة «شيء من الخوف» المأخوذ عنها، والصادرة في 1967. هي رواية خالدة عن قسوة الدولة والفساد السياسي والخوف الجماعي الناجم عن ذلك. وإلى جانب خلود الرواية فهي تتسم أيضًا بخصوصية زمنية، فقد عُرض الفيلم بعد عامين من الهزيمة العربية في عام 1967، تلك الهزيمة التي أثّرت بعمق على السياسة والمجتمعات العربية.

في مصر أدّت النكسة، التي فقدت فيها كل من مصر وسوريا وفلسطين أجزاء من أراضيها لصالح إسرائيل، إلى خلخلة نظام جمال عبد الناصر الذي حكم على مدار عقد سابق لها، بفضل التحرر من الاستعمار والوعد بإنشاء دولة مستقلة وحديثة.

في بدايات خيالاتها ما بعد الاستعمارية في أول الخمسينيات، قامت الدولة القومية على مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين والانتماء الفعّال لسياق إقليمي أوسع، هو العالم العربي. إلا أن إمكانية تأسيس مثل تلك الدولة القومية اعتمدت على جهاز أمني لا يعرف الهوادة، جهاز أسكت الأصوات المعارضة من خلال الاعتقال والتعذيب، وفرض رواية دولتية وحيدة على الإعلام والرأي العام. وكان تأميم السينما المصرية في الخمسينات أحد الأمثلة على كيفية تخلل رواية الدولة في مختلف أشكال الإنتاج الفني لصالح المزيد من ترويج رؤية عبد الناصر لدولة قومية جديدة.

ثم جاءت 1967 لتعطل كل ذلك، حيث ولدت الهزيمة شعورًا جمعيًا بخيبة الأمل في مشروع عبد الناصر، الذي جرى الترويج له باعتباره حلمًا.

***

ينتمي فيلم «شيء من الخوف» إلى تلك اللحظة السياسية والسينمائية، كما ينتمي إلى حركة احتجاجية محدودة في الإنتاج السينمائي، حركة تناولت مواضيع متعلقة بالديكتاتورية والاستبداد والثورة من خلال روايات في الريف المصري؛ نفس ذلك الريف الذي انتصر له عبد الناصر من خلال إصلاحاته الاجتماعية.  وفي حين كانت تلك الأفلام أعمالًا سياسية مباشرة تعبر عن السخط على الواقع المعاش، كانت كذلك مظاهر للتجريب السينمائي لقدرة الشكل على إيصال رسائل مشحونة بالسياسة، على الأقل من خلال رخصته الجمالية، مثلما في فيلم «الأرض» (1970) ليوسف شاهين، و«الزوجة الثانية» (1967) لصلاح أبو سيف. بحسب التغطية الإعلامية في ذلك الوقت، مُنع الفيلم في البداية بواسطة جهاز الرقابة، الذي رأى فيه تجسيدًا لحكم عبد الناصر في مصر، إلا أن عبد الناصر، بعد أن شاهده في منزله الخاص، ورغم انشغاله بإدارة أزمة ما بعد الهزيمة، سمح بعرضه قائلًا إنه إذا كان هو المقصود بعتريس، بطل الرواية، فهو يستحق ما انتهى إليه.

الموسيقى هي واحدة من أبرز عناصر فيلم كمال، وكتب الأغاني، مع الحوار، الشاعر الأيقوني الراحل مؤخرًا عبد الرحمن الأبنودي، ووضع ألحانه بليغ حمدي (وهو رمز آخر في حد ذاته)، ما جعل الفيلم يكاد يكون عرضًا موسيقيًا.

بداية من الأسماء في تتر الفيلم، والمرسومة على حائط بصحبة صور لسكان ريفيين يملأ الخوف عيونهم، نبدأ في التعرف على  قصة قرية الدهاشنة من خلال الأغنية القوية، والتي تستمر في المشهد الأول في تعريفنا بالشخصيات: الجد (قام بالدور محمود مرسي، الممثل الموهوب الذي لم يلق ما يستحق من التقدير)، وهو شرير تقليدي وكابوسي، وعتريس، حفيده الصبي الهادئ الطيب الذي يربي حمامة.

نعرف مبكرًا أن عتريس مغرم بفؤادة، إحدى بنات القرية التي تتميز بالشجاعة والذكاء. يصر الجد على أن يشتد عود عتريس ليستكمل موقعه ككبير القرية. «لو ماكنتش صقر هياكلوا لحمك، هينهشوه، هيحاوطوك زي الديابة، أنا عايزك وحش، عايز أحكم بيك الدهاشنة بعد ما أموت» يقول الجد لعتريس بعنف في لقطة قريبة بعد أن ذبح الحمامة أمامه.

تمر السنوات، ونلتقي عتريس وفؤادة وقد كبرا، حيث يلعب محمود مرسي أيضًا دور عتريس، وتلعب دور فؤادة المغنية شادية، في واحد من أبرز أدوارها في تاريخها السينمائي كممثلة. يواصل عتريس كونه جزءًا من الدائرة المقربة لجده، إلا أنه لم يفسد بعد، وتخبره فؤادة أن اللحظة التي سيصبح فيها قاتلًا ستكون اللحظة التي يفترقان فيها.

وتأتي هذه اللحظة. بعد مقتل جده، يصبح عتريس حاكم القرية وفتوتها الذي يملأه غضب يتجاوز حتى قسوة جده.

***

مشهدان يميزان فيلم «شيء من الخوف»، وعادة ما يجري استحضارهما، بسبب الرسالة السياسية القوية لهما، إضافة إلى العرض السينمائي الغنائي الذي صاحبهما وحولهما إلى رمز.

على عكس سائر القرية التي تخاف عتريس وعصابته، تقف فؤادة متحدية عتريس وعصابته، وتشجع الآخرين على نفس الموقف. في أحد أهم المشاهد الرمزية في الفيلم، جفّف رجال عتريس ترعة القرية، وبينما جلس كل سكان القرية في حالة يأس، أمسكت فؤادة محبس هويس المياه لتفتحه في لقطات قوية متتالية، كانت مقابلة للقطات لاحتفال القرويين، في حين تسيل المياه ببطء لتروي أرضهم. كل هذه اللقطات المليئة بالتحدي نشاهدها بالأبيض والأسود، رغم إمكانية إخراجها بالألوان. سيصبح هذا المشهد المتمحور حول فؤادة واحدًا من أهم معالم الحركة النسوية المصرية وآثارها في السينما، تلك الصناعة التي تميزت إما بتلميحات فارغة للخطاب النسوي أو بالمعاداة التامة للنساء.

كما يمكن القول إن أحد أكثر المشاهد تألقًا في تاريخ السينما المصرية حدث عندما اجتمع القرويون للتخلص من عتريس بعد أن تزوج قسرًا بفؤادة. هذا التكرار لأنشودة «جواز عتريس من فؤادة باطل»، والمصحوبة بجوقة موسيقية قوية، أصبح مشهدًا مبدعًا عابرًا للزمن. هو مشهد يؤكد على قدرة الشعب على محو واقع يرفضه. في المجاز الذي يتخلل الفيلم، والمرتبط بطعم الخوف، يصبح عتريس رمزًا للسلطة، وتصبح فؤادة رمزًا لمصر، كما يصبح زواجهما غير شرعي من وجهة نظر الشعب.

يعد «شيء من الخوف» وثيقة عن مشاعر ما بعد 1967، ينفذها فريق غير معتاد: مؤلف ثري معارض لعبد الناصر، دفعت أسرته ثمن سياساته المناهضة للإقطاع (ورغم ذلك أثبت قدرة على أن يصور بشكل موثوق حياة قروية منتصرة)، ومخرج تجاري ستنجح أفلامه في تحقيق أعلى الإيرادات بعد قترة قليلة من التجريب الجمالي في صنع أفلامه، وشاعر غنائي تحول إلى كاتب سيناريو بعد ان طُلب منه أن يكتب أغاني فيلم شعر بأنه الشاعر المختار له.

 __________

ترجمة: عايدة سيف الدولة

اعلان
 
 
روان الشيمي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن