كابتن غزالي.. فنّ ولادنا نلمّه، نسنّه، ونعمل منه مدافع
 
 

يخلط الكثيرون بين دور كابتن غزالي، الراحل عن عالمنا منذ أيام، في شحذ الوعي بالمقاومة، وبين دور مفتَرض له في قيادة المقاومة المسلحة.

والحقيقة أن غزالي، على غرار الشيخ حافظ سلامة رئيس جمعية «الهداية الإسلامية»، لم يحمل سلاحًا بشكل مباشر، ولم يقد عمليات قتالية، وإنما كان لكليهما دوره، الأول بالغناء والموسيقى والثاني بالدعوى الدينية، في التعبئة المعنوية والنفسية ضد إسرائيل وعدوانها.

فيما يلي نحاول دراسة ظاهرة فرقة «أولاد الأرض» الموسيقية، التي أسسها غزالي عقب عدوان 5 يونيو، وذلك في ظل عدم سماح النظام الناصري لأي صوت مستقل بالظهور خارج أطره وتنظيماته.

ينحدر محمد أحمد غزالي، أو كما يسميه السوايسة «الكابتن غزالي»، من أسرة صعيدية تعود إلى قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر. كانت له مواهب متعددة، رياضية مثل الجمباز ثم المصارعة، فضلًا عن أخرى فنية، مثل الرسم والخط العربي، غير أن المفارقة أنه لم يُعرف عنه قبل 1967 أي ميل للغناء أو الموسيقى، وخاصة للسمسمية، الفن الشعبي المرتبط بمدن القناة، وإنما قرر تعلم العزف عليها مع قراره بتشكيل فرقة «أولاد الأرض»، لمقاومة العدوان عبر الموسيقى.

بيوت السويس.. بيوت مدينتي

لتأمل ظاهرة «أولاد الأرض»  يجدر بنا أن نعرف ولو نذرًا يسيرًا عن البيئة التي نشأت فيها.

ثمة تقسيم طبقي واضح تاريخيًا في السويس، فالجاليات الأجنبية من العاملين في شركات الملاحة وهيئة قناة السويس، وبشكل أقل في التجارة، من يونانيين وطلاينة وفرنسيين وإنجليز وهنود، يعيشون في ضاحية «بور توفيق»، وفي «حي السويس»، وهو المنطقة التي ميّزها السوايسة باسم «البر التاني»، في تعبير موفق يصف التمايز الطبقي والاجتماعي للبرجوازية المدينية الوطنية، وذلك في مقابل «الحي الوطني» الذي يضم منطقة «السلمانية»، وهي المنطقة التي يقع فيها الميناء القديم، وقامت عليها مدينة السويس، ونشأ فيها غزالي وتربى.

تميزت السويس منذ العشرينيات بأنديتها الرياضية التي أنشأتها الجاليات الاجنبية، ودرس الشباب، بمن فيهم غزالي، خلالها الرياضة بأنواعها.

الكابتن غزالي.. تصوير نرمين خفاجي

وللطبيعة العمالية للسويس، فقد التحق غزالي بالمدرسة الصناعية الزخرفية ليجيد الرسم والخط العربي.
وفي غمرة النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، وبسبب   الوجود الكثيف للإنجليز، بمعسكراتهم وقواتهم، كان أبناء المدينة شهودًا على كل ما ارتبط بالقضية الوطنية من أحداث عربية، خاصة حرب فلسطين 1948، ومصرية، خاصة بعد إلغاء معاهدة 1936 في 1951، حيث شهد حي «كفر أحمد عبده» الشعبي والقريب من معسكرات القوات البريطانية، كفاحًا مسلحًا استشهد فيه العشرات من أبناء السويس، وانتهى أمره بإزالة قوات الاحتلال لمنطقة «أحمد عبده» بأكملها وهدمها وتشريد أهلها.

كان غزالي وأقرانه من الشباب يتابعون كل هذه الأحداث ويشاركون فيها بأشكال مختلفة.

اهتمام ناصري بالسويس

لم تكن مدينة السويس مدينة عادية بالنسبة للنظام الناصري، وذلك بسبب طابعها العمالي، حيث ارتبطت بشركات البترول والصيد وشركات التوكيلات الملاحية وموظفي الخدمات الحكومية.

مع قيام ثورة 23 يوليو، والتوسع الصناعي في المدينة ونمو طبقة عاملة واسعة، نما الطابع الحضري للسويس وتوسعت المدينة، حيث أولاها النظام الناصري اهتمامًا واسعًا، خاصة مع إنشاء ما يُعرف بـ«الجامعة الشعبية»، والتي شكّلت نواة لفكرة «قصور الثقافة» التي أتت لاحقًا، ثم إنشاء ثاني معهد اشتراكي في مصر بالمدينة «معهد الدراسات الاشتراكية»، التابع للاتحاد الاشتراكي، حيث كانت تُعقد دورات عن الاشتراكية العربية، وأسس الفكر الاشتراكي، وميثاق العمل الوطني، وهو مانيفستو الناصرية، وحيث تخرجت كوادر شبابية وسياسية مشبعة بثقافة المرحلة ذات النزوع القومي والوطني الشعبوي، انخرطت في العمل الوطني والثقافي والسياسي.

كابتن غزالي على الأرض، وبجانبه الأبنودي، من جروب “ذكريات السويس”

ولكن مع قيام حرب يونيو 1967 والهزيمة المصرية الفادحة وتقهقر الجيش المصري منسحبًا من سيناء، كانت الانتقالة الكبيرة في خط الناصرية في السويس. فكما أشار غزالي في أكثر من لقاء شخصي وعام، فقدت السلطة الناصرية بأجهزتها السيطرة على مجريات الأمور داخل السويس، ومن هنا ظهرت الخبرات السياسية والتنظيمية للكوادر الوطنية، التي تربت في حضن الأجهزة الناصرية، ملتقية مع النزوع العفوي لأهالي السويس، ومنهم غزالي، نحو تنظيم عمل شعبي منظم لاستقبال الجنود العائدين من السير الطويل في صحراء سيناء، ومنهم من جُرح أو أصابه الإعياء. ومع وصول الأفواج الأولى للقوات الإسرائيلية إلى الضفة الشرقية للقناة، في مواجهة ميناء ومدينة بورتوفيق، كان الأهالي قد عبروا بقوارب الصيد لنقل الجرحي والمجهدين وتقديم أشكال الرعاية والعناية الأولية لهم، وإعدادهم للعودة إلى إهاليهم، خاصة مع انقطاع وسائل الاتصال آنذاك ومحدوديتها.

تشكلت المجموعة الأولى من منشدي الفرقة تحت اسم «البطانية»، لأنهم كانوا يجلسون على بطانية في مواجهة دكان غزالي

منحت تلك الأشكال الجنينية من العمل المستقل عن النظام الناصري، خبرة القيادة لمجموعة من الشباب، وأعطتهم مكانة متميزة، خاصة بعد انخراطهم في قوات الدفاع الشعبي، وتلقيهم التدريبات على يد عسكريين محترفين، لتنبثق منهم المجموعة الأولى من المقاومين، وعلى رأسهم غزالي، الذي كان الأكبر سنًا والأكثر خبرة.

ولكن مع تنبه النظام لخطورة انتظام مقاومة مسلحة مستقلة عنه، حتى وإن لم يكن دورها سوى حماية المنشآت، جرى تحجيم التدريبات، وتقرّر أن يقوم الجيش بالمهمة كلها.

فرقة البطانية.. «أولاد الأرض» لاحقًا

استمر غزالي، مع مجموعة أخرى، في السويس، حيث انبثقت فكرة تشكيل فرقة فنية تغني على السمسمية، الآلة الشعبية الأولى في مدن القناة، وتفجرت وتطورت موهبته الشعرية آنذاك، بتأليف أزجال عامية قد لا تتوفر لها قيمة فنية أو شعرية عالية، ولكنها كانت تعبيرًا عن الحال وقتها، وبشكل مغاير تنبع قيمته من خروجه من أرض المعركة وصلبها.

تشكلت المجموعة الأولى من منشدي الفرقة تحت اسم «البطانية»، لأنهم كانوا يجلسون على بطانية في مواجهة دكان غزالي، الذي كان يتخذه مرسمًا ومكتبًا، ثم ما لبث أن حصل غزالي على «خندق»، بلهجة السوايسة، أي مخبأ من الدبش والطوب مُغطى بالرمل وفيه فتحات تهوية، ويضاء بالكهرباء أو بالفوانيس والكلوبات وقت انقطاعها، ليضمه هو ومجموعته، التي أخذت اسم «أولاد الأرض»، حيث عملوا جميعًا على رفع الروح المعنوية للجنود على الجبهة، بتعاون مع «التوجيه المعنوي للقوات المسلحة».

في حوار مع الصحفي محمد الشافعي، ضمه كتابه «محمود طه غزال المقاومة.. بطولات منظمة سيناء العربية»، يقول غزالي: «في أثناء حضورنا أحد الاجتماعات العسكرية، وكانت معي هذه المجموعة، غنينا بعض الأغاني، فحازت إعجاب الجميع، وطلب مني قادة الجيش أن نزور كل المواقع العسكرية من الغردقة وحتى بورسعيد أي على طول كل الجبهة. »

ظلت تجربة «أولاد الأرض» تدور في هذا الإطار، وإن تطورت بشكل نوعي مع صدور قرار رسمي بتهجير سكان مدن القناة، خاصة بعد استهداف إسرائيل للمدنيين في المدن الثلاث، والسويس بالأخص.

 يا مهاجرين سنتكم طين!

تحتاج تجربة التهجير لنظرة متعمقة وجادة، من حيث أثرها، ليس فقط على الحياة داخل السويس، ولكن خارج المدينة أيضًا، في معسكرت التهجير، حيث تشتت شمل الأسر وتفرقت العائلة الواحدة عبر محافظات مصر.

وصل الأمر أحيانًا للاصطدام بين الأهالي وبين المهجرين، خاصة مع المماحكات اللفظية مثل «غلّيتوا علينا المش»، أو «يا مهاجرين سنتكم طين، رحتوا وجيتوا مفلسين»

صحيح أن النظام الناصري تمكّن من استيعاب هذه الموجات البشرية، بفتح مدن كانت مُنشأة حديثًا وفقًا لنظام المساكن الشعبية السائد في الستينيات، حيث فُتحت «مدينة نصر» في القاهرة، والمساكن الشعبية في طنطا وبني سويف والإسكندرية وغيرها من المحافظات، لتستوعب فئات محددة من الموظفين وأصحاب الأعمال المرتبطة بالجهاز الحكومي، والذين كانت لهم الأولوية في الاستيعاب الرسمي، لربطهم بأماكن عمل وفروع بديلة لأعمالهم، لكن المشكلة كانت أعمق بالنسبة لـ«البمبوطية» وأصحاب الأعمال الحرة والعاملين بخدمات السفن ومخلفاتها ممن فقدوا أعمالهم، وكانوا أسوأ حظًا في التهجير، حيث سكنوا المدارس والمباني الحكومية في معسكرات التهجير، أما الأسوأ حظًا من الجميع فكانوا من عاشوا في الوحدات الريفية المجمعة، حيث تشاركت كل مجموعة من الأسر عددًا من الحجرات المتجاورة التي تخدمها مرافق محدودة من دورات مياه وحمامات، بل وتفتقر أحيانًا للمياه النقية والكهرباء، وحيث الاصطدام بالعادات والتقاليد المختلفة والنظرة العدائية في بعض الأحيان للمُهجرين، لتشكيلهم ضغطًا على المرافق الحكومية والمدارس المخصصة لسكناهم.

تمتع المُهجّرون ببعض المميزات التموينية كالسكر، بالإضافة لكميات ضخمة من الزيت، في وقت شح المواد التموينية في مصر كلها، لإدراك النظام العادات الغذائية لمجتمع مدن القناة، والذي يرتبط  بالأسماك المقلية كغذاء أساسي. كذلك حصل المهجرون على إعانات من الشؤون الاجتماعية من بطاطين وأغذية كاللبن المجفف وغيره، وكانت رغم محدوديتها آنذاك مثار حسد الأهالي، حتى وصل الأمر أحيانًا للاصطدام بينهم وبين المهجرين، خاصة مع المماحكات اللفظية مثل «غلّيتوا علينا المش»، أو «يا مهاجرين سنتكم طين، رحتوا وجيتوا مفلسين».. إلخ.

تطلب الأمر وقتها أن ينتقل «أولاد الأرض» لمعسكرات التهجير لرفع الروح المعنوية، والمساهمة في «ضبط الجبهة الداخلية» بالأغاني الوطنية والحماسية، وكان أشهرها «فات الكتير يا بلدنا»، التي غنوها أولًا، قبل أن تغنيها الفنانة ذائعة الصيت آنذاك فادية كامل:

«فات الكتير يا بلدنا، مابقاش إلا القليل، وعضم إخواتنا، نلمه نلمه، نسنه نسنه، ونعمل منه مدافع، وندافع، ونجيب النصر، هدية لمصر.»

نقد فن «الإلهاء»

بينما كانت حرب الاستنزاف على أشدها، والسويس واقعة تحت الغارات والقصف اليومي، في نقطتها الحصينة في «عيون موسى»، المواجهة لبور توفيق، كان يسود البلد توجه لدفع الناس لنسيان أثر الهزيمة في النفوس، عبر نشر الأعمال الكوميدية والغناء الخفيف، ما دفع «أولاد الأرض» لانتقاد هذه الأعمال الفنية، والتشهير بها بقسوة جارحة للشعور الرسمي:

«يا أبو عتبة قزاز، والسلم نايلو في نايلو، الطفل في بلدي شاب، والقهر عمل عمايله، يا صبية مالك خسيتي، آه يا ناري، لسه لا رُحتى ولا جيتي.. قالت اليهود نسفوا بيتي، ولحم اخواتي مكوم.»

وكما أشار «أولاد الأرض» لفيلم «العتبة قزاز»، (1969)، في معرض تشهيرهم بـ«الفن الرخيص»، فقد كان لهم ردهم أيضًا على أغنيتي «سواح» و«جانا الهوى» لعبد الحليم حافظ:

«لأ موش هاغني… للقمر، ولا.. للشجر، ولا للورد في غيطانه، ومانيش.. سواح، ولا.. حاقول للهوا طوّحنا، طول يا بلدي، ما فيكي..شبر ..مستباح.»

كابتن غزالي وصورة لأمل دنقل.. من جروب “ذكريات السويس”

ثم أخذت الظاهرة شكلًا من أشكال الاستقلال النسبي، فبدأ توجيه سهام النقد لبيروقراطية النظام والطبقة الجديدة التي تشكلت من السمسرة وفساد القطاع العام، ليكتب غزالي «أبوح يا أبوح» مستدعيًا، قبل أحمد فؤاد نجم، تراث غناء الأطفال الشعبي، في هجائية قاسية:

«أبوح يا أبوح، دم البلد.. مسفوح، ياصاحب.. البقرة، يازارع.. الشجرة، تطرح.. وتديهم، ولا تمر.. فيهم، باعونا.. للكفرة.»

 السادات.. كر وفر

ثم أتت وفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 لتشكّل نقطة فاصلة في علاقة غزالي و«أولاد الأرض» بالنظام، خاصة بعد أحداث 15 مايو 1971، والتي أطلق عليها السادات اسم «ثورة التصحيح» وأطاح فيها بالجناح الناصري المتشدد، الذي كان غزالي يقدّره ويعتبره حافظ تراث الناصرية.

ومع سياسات السادات إزاء إسرائيل، وتصاعد الغضب الطلابي في الجامعات ضده، اندفع غزالي نحو الحركة الطلابية ليشارك بالتحريض ضد النظام والدعوة للحرب، ساخرًا من نظام السادات وشعاراته عن الحرب و«دولة العلم والإيمان»، التي أشار لها في قصيدته «حلنجة بلنجة»:

«فتحنا قلوبنا، وآدي زنودنا، ويلا يا عم نمد خطانا، ونبدأ نبني.. سنيننا.. الجاية، وهات يا أماني، قولي يا أغاني، خلو شعار الرحلة الجاية، علم وإيمان وألف حكاية، وهات يا لف.. وهات تنطيط، هو يزمر.. وإحنا نزيط، آتاري آخر الزمر طيط، وطلعنا هُبل.. وهو عبيط.»

ومع تصاعد نبرة العداء ألقي القبض على غزالي في 7 مارس 1973، وأُبعد عن السويس ونُقل إلى قرية «كفر السراي» قرب بنها، مع تحديد إقامته وهوجم الخندق مقر الفرقة، وتشتت أفرادها.

 حذاء مقطوع في وجه الفساد

ومع نصر أكتوبر 1973، وعودة المُهجّرين إلى مدن القناة، ومنها السويس، عاد غزالي لينشط في المجال السياسي ويترشح في انتخابات المجلس المحلي، حيث انتُخب مع حسين العشي وأحمد نجيب العسكري، وغيرهم من الوجوه الديمقراطية، وتعالت انتقاداتهم بحدة ضد الإهمال والفساد الذي يطول السويس، حتى أنه حينما لمّح أحدهم إلى ذمة غزالي المالية، رفع الأخير حذاءه المقطوع ملوّحا به في وجهه وفي وجه سدنة الفساد. لذا لم يكن من الغريب أن تحاول الأجهزة الأمنية، بعد انتفاضة يناير 1977، دس اسمه في قائمة المحرضين على الانتفاضة في السويس.

اعلان
 
 
أنور فتح الباب 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن