«الطلاق الشفهي».. قمة جبل الصراع بين الأزهر والرئاسة
البرلمان والإعلام والأوقاف مع الرئيس ضد «الطيب»
 
 
 

التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي شيخ الأزهر أحمد الطيب في مقر رئاسة الجمهورية بداية الأسبوع الماضي، وخلال اللقاء: أثنى الرئيس على المشيخة ودورها الكبير في مواجهة التطرف والإرهاب.

جاء اللقاء بعد تصاعد حدة الخلاف بين مؤسستي الرئاسة والأزهر حول مسألة الطلاق الشفهي، وما رافق الخلاف من تصعيد إعلامي استهدف مؤسسة الأزهر وشيخها وكبار علمائها، وتوجهاتهم وانتماءاتهم الأيديولوجية، والاتهامات للمشيخة «بخوض معركة فتنة على طريقة الإخوان»، وسط مطالبات للشيخ أحمد الطيب بتقديم استقالته، أو إلقاء اللوم على دستور 2014 الذي جعل من الأزهر «سلطة مقدسة».

وفي مقال مطول بالأهرام، كتب مكرم محمد أحمد تحت عنوان «حقيقة الخلاف بين الأزهر والرئاسة»، ما يمكن اعتباره فصل الختام في سلسلة طويلة من الجدل حول العلاقة بين السيسي والطيب. وصف أحمد مساعي منتقدي الطيب بـ«عشم إبليس في الجنة»، مضيفًا: «لأن الذي بين الرئيس السيسي والشيخ الطيب عميق وعريض، لقد اختبر كل منهما الآخر حتى النهاية في تجربة صعبة ومريرة قبل نهاية حكم جماعة الإخوان المسلمين، كان كل منهما يقاوم طغيان الجماعة في موقعه، إلى أن جمعتهما الأقدار يوم 3 يوليو في مشهد تاريخي يتذكر تفاصيله كل المصريين».

وتعكس الأزمة الأخيرة تطورًا للطبيعة المتوترة للعلاقة بين المؤسستين على مدار السنوات الثلاث الماضية، والتي يحاول مؤيدو السيسي حصرها في مقاومة الأزهر لرغبتي الرئيس في «إصلاح الخطاب الديني» وتوثيق الطلاق الشفهي، وهي الفكرة التي لقت صدى واسعًا لدى صفحات وشاشات الإعلام المحلي، ودعمًا من اللجنة الدينية في البرلمان، وكذلك استجابة سريعة من وزير الأوقاف الذي سارع لتأييد طلب السيسي.

 وامتد أثر فكرة الصراع بين المؤسستين إلى الإعلام الأجنبي أيضًا. ففي مقال لجريدة الإيكونوميست، اتٌّهِم الأزهر بمحاولة الوقوف أمام أحلام السيسي بتجديد الخطاب الديني، وأضافت الجريدة أن الأزهر ترك المتشددين ليسيطروا على المقاعد القيادية داخله، وهو اتهام شبيه بما يتداوله مؤيدو الرئيس حول انتماء أعضاء هيئة كبار العلماء للإخوان والتيارات السلفية المتشددة.

لكن هل يتلخص الصراع بين السيسي والأزهر في مسألة تجديد الخطاب الديني؟ الحقيقة أن هناك شواهدًا تدلل على التقارب في المواقف المحافظة بين شخص الرئيس وآراء الأزهر. ففي حوار سابق للسيسي أثناء ترشحه للرئاسة، تحدث «مرشح الضرورة» عن الدور الأخلاقي الذي يعتزم أن يلعبه كرئيس: «القانون لوحده مش كفاية، آليات أخرى لازم تشتغل زي آليات الإعلام، زي آليات التعليم، زي آليات دور العبادة، زي آليات الأسرة.. مش هما دول اللي بيساهموا في صياغة الشخصية وتشكيل الوعي؟ يبقى إحنا لازم نشتغل على الآليات دي ونرقيها… عايزين تعرفوا أنا كرئيس جمهورية هاتصرف إزاي؟.. أنا باقولها بمنتهى الوضوح.. إن لازم آليات الدولة دي، اللي هي مؤسسات التعليم ومؤسسات ودور العبادة والإعلام، تساهم معانا في ضبط الحالة والأخلاق اللي كلنا بنقول إننا عندنا مشكلة فيها».

وبعد توليه منصب الرئاسة، تزعمت وزارة الأوقاف مبادرات عديدة، منها حملة قومية لمكافحة الإلحاد أو موافقة وزارة التعليم على إدخال مادة بعنوان «الأمن الفكري والأخلاقي»، بالإضافة إلى تحركات وتصريحات مختلفة لمسؤولين ومؤسسات رسمية، عبرت عن توجه كبير لرعاية الأخلاق من خلال سلطة الدولة، رصدها تقرير سابق لـ«مدى مصر» تحت عنوان «سلطة الدولة الأخلاقية: نبيع الوهم للجماهير».

تشير الشواهد السابقة لأن طبيعة الصراع بين المؤسستين قد لا يرتبط بالخلاف حول رؤية كل منهما للخطاب الديني، ولكنها ترتبط أكثر بعوامل مؤسسية وسياسية وتاريخية، جعلت من انتصار الطيب في معركة القوة أمرًا حتميًا.

الاستقلال مُهَدَد

«إحنا مبنلعبش سياسة ومننفعش فيها ومبنفهمهاش ولو دخلنا فيها نتحرق، إحنا دورنا دور وطني فقط»، كانت هذه هي كلمات الطيب في أول حوار له بعد مظاهرات 30 يونيو على قناة الحياة في مايو 2014، إلا أن اللقاء الأخير بين السيسي والطيب يعكس خلاف ذلك.

في هذا الصدد، يقول ناثان براون الباحث ببرنامج الشرق الأوسط بمركز كارنيجي، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطون لـ«مدى مصر»: إن الصراع الأساسي بين مؤسستي الرئاسة والأزهر يتمحور حول شخصية كل من السيسي والطيب، وتمسك الطيب المبدئي بعدم التخللي عن مبادئ الشريعة الإسلامية «لتمرير تشريعات تتسم بالتعجل بشكل كبير»، بالإضافة لما يراه براون صراعًا ناتجًا عن توازنات القوى بين المؤسسات في مصر، وهي الأسباب الثلاثة التي فصلها في تدوينة له نشرها على مدونة مركز كارنيجي الأسبوع الماضي.

ويشير براون في تدوينته إلى العلاقة الشخصية التي ربطت بين السيسي والطيب، والتي شابها الكثير من التوتر، ليس فقط بسبب الأزمة الأخيرة، ولكن منذ تصاعد موجة العنف ضد جماعة الإخوان المسلمين، رغم تصدر الطيب مشهد الثالث من يوليو بجوار السيسي. ظهر هذا الاختلاف في اعتراض الطيب على «إراقة دماء المسلمين» في أكثر من مناسبة، سواء بعد أحداث الحرس الجمهوري، أو فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، وهو الحدث الذي اعتكف بعده شيخ الازهر في بلدته بالأقصر. وتطور الخلاف الشخصي بين الرجلين بعد رفض الأزهر الشريف قرار وزارة الأوقاف بتوحيد محتوى خطبة الجمعة.

في حوار سابق لـ«مدى مصر»، أشار عمرو عزت، الباحث في شئون الدين والمعتقد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن طريقة إخراج المشهد أثناء خطاب السيسي للحديث عن الطلاق الشفهي اعتُبِر مسيئًا لمكانة الأزهر: «توجيه السيسي الحديث للطيب ظهر وكأن الأزهر يقدم خدمات بالطلب للرئاسة، وهو ما اعتبره علماء الأزهر استخفافًا بهم». ويضيف عزت أن وزير الأوقاف يقوم بدور المستجيب لهذه الطلبات جيدًا، وظهر هذا جليًا في أزمة الخطبة المكتوبة، التي أتت كاستجابة لطموحات السيسي حول مسألة تجديد الخطاب الديني».

يشرح عزت: «جمعة [وزير الأوقاف] في النهاية يحمل منصبًا تنفيذيًا، فمن الطبيعي أن يعمل على خدمة توجهات الدولة، والأزهر يرى أن تلهُّف جمعة ذلك يسيء لمقام المؤسسات الدينية بشكل عام، وهو التوجه الذي يرفضه الأزهر. في المقابل، أتى رد الطيب من خلال بيان لهيئة كبار العلماء وليس بيانًا منه بشكل شخصي، وهي إشارة إلى أنه يستند في شرعيته على هذه الهيئة التي يتم اختيارها الآن بعيدًا عن التعيين،…  وتعطيه الشرعية، خاصة وأنه [الطيب] يشغل هذا المنصب مدى الحياة».

 يتفق براون مع عزت في النقطة الأخيرة، مشيرًا للاستقلالية النسبية التي يتمتع بها الطيب حاليًا، مضيفًا: «يكتشف السيسي ذلك حاليًا، مثلما اكتشف مرسي ذلك أيضًا من قبله». بالتحديد، يشير براون إلى تعديل خاص بقانون الأزهر في فبراير 2012، قبل أيام من انعقاد أولى جلسات مجلس الشعب الذي سيطرت عليه جماعة الإخوان المسلمين.

يقول أستاذ العلوم السياسية: «التعديل الذي أدى لتغيير في بنية قيادة الأزهر كان مُصممًا لجعل الأزهر مستقلاً عن سيطرة الإخوان، لكنه يعمل كذلك بغض النظر عمن يشغل منصب الرئيس. جعل التغيير الشيخ [الطيب] أكثر استقلالية مثل المحكمة الدستورية العليا مثلاً. لكن أثر التعديل أصبح أبعد من ذلك، فلقد أعطت التعديلات الطيب [قيادة] مجموعة من كبار العلماء أكسبته مستوى كبير من القوة الرمزية. لقد استدعى الطيب [هيئة كبار العلماء] في السابق في خلاف مشابه مع مرسي بعد اجتماع الأمم المتحدة بخصوص اتفاقية مناهضة العنف ضد المرأة، ومرة أخرى العام الماضي في صراع مع وزارة الأوقاف [حول الخطبة الموحدة]».

وقتها؛عارض بقوة مناقشة الاتفاقية أو أية احتمالات لتصديق مصر عليها، وهو ما دفع الطيب لاستدعاء هيئة كبار العلماء لرفض الاتفاقية، في موقف مشابه لموقف شيخ الأزهر الأسبق جاد الحق علي جاد الحق، إبان انعقاد مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994.

وجاء تعديل قانون الأزهر لينهي سيطرة رئيس الجمهورية على ملف تعيين شيخ الأزهر، الذي أصبح منتخبًا من قبل هيئة كبار العلماء، جاعلاً الطيب غير قابل للعزل، ومتحكمًا في ذات الوقت في تعيين أعضاء الهيئة من بين أعضاء مجمع البحوث الإسلامية. وأعاد التعديل هيئة كبار العلماء التي ألغاها الرئيس السابق جمال عبد الناصر إبان إصداره قانون تنظيم الأزهر عام 1961، وهو القانون الذي وضع الأزهر تحت السيطرة الكاملة للسلطة التنفيذية، بعد أن أجهز قانون الإصلاح الزراعي على باقي أوقاف الأزهر، التي ضمنت للمشيخة استقلالها المادي على مدار قرون.

يعرف الطيب جيدًا قيمة التعديلات الأخيرة، ففي حديثه لقناة الحياة، قال الطيب إن التعديلات، بالإضافة إلى المادة السابعة من الدستور، جاءت بعد مطالبات عديدة لتحقيق استقلال الأزهر. مضيفًا: «وضعنا في الدستور الكثير مما كان يطمح إليه الأزهر، لكن الأهم تطبيق الدستور… ضمنا للأزهر أن يكون مؤسسة مستقلة، وأن يكون شيخ الأزهر شخصية مستقلة. قبل هذا كان شيخ الأزهر يخضع لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في أمور كثيرة جدًا، قيد هذا الأزهر وقيد شيخ الأزهر».

وعلى الرغم من أن هذا المستوى من الاستقلالية ساعد المشيخة وشيخها كثيرًا في معاركه المختلفة مع القيادة السياسية، إلا أن اعتماد الأزهر على ميزانية الدولة في تمويله لا يعمق هذه الاستقلالية كثيرًا. فبالنظر لميزانية المشيخة على مدار السنين الثلاث الماضية، نرى أنها قفزت قفزة كبيرة بعد 30 يونيو.

يقول محمد مدحت مندور، الباحث بوحدة أبحاث القانون والمجتمع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة أن الأزهر والأوقاف، اللذين أسماهما بـ«مؤسسات الدولة الأيديولوجية» يمثلان أهمية كبيرة للدولة المصرية، خاصة في أوقات اشتداد صراعها مع جماعات الإسلام السياسي، وهو ما يفسر ارتفاع ميزانية الأزهر من قرابة الثمانية مليارات إلى 11 مليار جنيه في عام واحد. ويضيف مندور: «الصراع الحالي مفاده أن الأزهر يرسل رسالة للرئاسة، بأنه لا يمكنه السيطرة على المجال الديني وهو ملتصق هذا الالتصاق الشديد بالدولة، وأنه على الدولة أن تعطي الأزهر المساحة الكافية للتحرك».

يقول الباحث أن استبدال الجماعات الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين، بالمؤسسات الدينية التابعة للدولة مهمة ثقيلة جدًا، خاصة وأن شبكات الضمان الاجتماعي التي كونها الإخوان على مدار الأعوام الماضية كبيرة ومؤثرة ومتشعبة. «وبالتالي يصبح سؤال التمويل هامًا جدًا، فالسلطويات دومًا ما تحاول تمويل شرعيتها بأي شكل».

إلا أنه من الصعب على الدولة استخدام سلاح التمويل للسيطرة على مؤسسة بحجم الأزهر بشكل كامل، خاصة بعد الأوضاع القانونية والدستورية الجديدة: «سينتصر الأزهر في مواجهاته مع الدولة لأنه لا يوجد بديل للمشيخة بأي حال من الأحوال، فهي تتمتع بوضع خاص مماثل لوضع المؤسسة العسكرية، كما أن الدور الرمزي للمؤسسة أكبر من أن تمسه الدولة بسهولة».

لكن النائب محمد أبو حامد، يعكف على تعديل بعض مواد قانون الأزهر. وربما يؤدي إلى تغيير المعادلة وإعادة إشعال الصراع مرة أخرى. كان النائب قد أعلن في تصريحات صحفية أن المشروع سيشهد تغييرات في طريقة اختيار شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء، حيث يعود رئيس الجمهورية ليكون له اليد العليا في اختيارهم. وتنص التعديلات أيضا على توسيع قاعدة عضوية الهيئة لانضمام غير الأزهريين إليها، وهو الأمر الذي قد يعيد مسألة استقلال الأزهر إلى المربع صفر. ستكشف الأيام القادمة عن مدى صمود المشيخة في هذه المعركة المحتملة.

اعلان
 
 
مي شمس الدين 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن