على خلفية من أندريس إنييستا
 
 
أندريس إنييستا - المصدر: لؤي فوزي
 

عليك أن تأخذ حذرك دائمًا قبل أن تطلب المزيد من شيءٍ ما، تأكد أن هذا هو ما تريده حقًا، لأنك ما إن استزدت منه حتى ألفته، والألفة ليست بالبراءة التي تتظاهر بها، لأنها ستخدعك عاجلًا أو آجلًا وستسمح للملل بالتسلل دون أن تنتبه، وبعد الملل يأتي الضجر، ثم قبل أن تدرك تكون قد انصرفت عن الأمر برمّته، من المدهش كيف يمكن أن يقودك الإعجاب بشيء للنقيض دون تدخل منك، وفقط لأن هذه هي طبائع الأمور، لذا ستظل العلاقة بين المتناقضات أعقد مما يمكننا أن نفهمه؛ كيف تنظم الإبداع من دون أن يقتله الروتين؟ هل من طريقة للجمع بين الفردية والجماعية معًا؟ لا توجد إجابات سهلة.

ربما لذلك كثيرًا ما نفشل في التعامل مع الفكرة، لأن التناقض لا يعني التضاد بالضرورة، ومن ثمّ هو لا يمنحك اختيارًا واضحًا بين الأبيض والأسود، بل غالبًا ما تقع الإجابة في المساحة المشتركة بين الاثنين، مساحة ضئيلة هي، ولكن أعظم مِنح الحياة غالبًا ما تأتي منها، لذا لا يدرك الناس خطورة الاعتياد على شيء ما لمجرد أنه هناك يحدث طيلة الوقت، لأنهم دائمًا ما يقعون في الخلط الشائع بين المتكرر والعادي، ويؤمنون بالتبعية أن المتكرر لا يمكن أن يكون استثنائيًا.

لا أحد يحب الألغاز؛ تخيل أن تمتلك منزلًا ضخمًا ودخلًا شهريًا كبيرًا وأطفالًا هادئين وزوجة محبة، ثم تخيل أنك تصحو من نومك كل يوم لتكتشف كل ذلك للمرة الأولى، فتقضي يومك في إخبار الجميع في بلاهة كم أنك محظوظ، فينظرون لك بلامبالاة لأنها المرة الألف التي تخبرهم فيها بذلك، لقد مر عليك ألف يوم من هذه الروعة ولكن ما زالت نظرة البشر الأحادية قادرة على إحباطك؛ العادة قاتلة ولا مناص من ذلك، بيل جيتس لا يتفقد حسابه البنكي كل يوم، ولم يعد هناك في الملاعب ما هو قادر على إدهاش رونالدينيو.

الجميع يحسب حركاته أكثر من مرة قبل أن يؤديها، أندريس يحدث أولًا كتفاحة نيوتن ثم يترك الحسابات والتحليل وإطلاق النظريات للآخرين.

أندريس لا يأتي من تلك المساحة الرمادية المتناقضة نفسها بل إنه هو من رسم حدودها على الأغلب؛ لا يوجد تفسير آخر يسمح لمن هو بهذه الضآلة أن يتمتع بتلك الشخصية الكاسحة، أو يشرح عجز الجميع عن اللحاق بمن تبدو حركته بهذا البطء، ولا كيف يتسنى لمن هو بتلك الوداعة أن يكون بهذه القسوة أحيانًا.

أهم أهداف أندريس إنييستا

الهدوء والسرعة، السهولة والصعوبة، يمكنك أن تسوّد مجلدًا كاملًا من ثنائيات أندريس الجنونية المتزامنة في اللحظة نفسها، ستبدو لك غير معقولة لأنك لا تستوعبها، ستحاول أن تتخيل كم الجهد المطلوب للجمع بينها لكنها ليست أكثر من فطرته، لا يحتاج إلا أن يكون هو ليفعلها، كان يعلم أين ستسقط كرة المونديال وكان قد اتخذ قراره بالفعل في انتظار نيوتن ليؤدي عمله على حد تعبيره؛ الأمر أشبه بالفيزياء فعلًا، الجميع يحسب حركاته أكثر من مرة قبل أن يؤديها، أندريس يحدث أولًا كتفاحة نيوتن ثم يترك الحسابات والتحليل وإطلاق النظريات للآخرين، ومن ضمن هؤلاء كان «باكو سيرولو» معد البرسا البدني الذي احتاج لشهور من المراقبة في التدريبات ليخرج بنظريته الخاصة؛ سبب عظمة أندريس هو إدراكه التام لعنصري الزمان والمكان، دائمًا ما يعلم «أين» و«متى» فلا يتبقى له سوى «كيف»، يعلم أين هو ويعلم أين الجميع، ويعلم متى يحدث «الركض» الشهير لتكتيك بيب، اللحظة التي ينتهي فيها تحديد المساحة المناسبة ويتحرك فيها الشخص المناسب لتخرج أرضية إنييستا السامة الزاحفة بين ثمانية من لاعبي الخصم؛ لغز آخر كف الجميع عن البحث عن تفسيره منذ زمن.

بيب لا يرى لاعب وسط آخر في العالم قادر على اللعب على الطرف وفي العمق وتأدية نفس الأدوار الدفاعية في الوقت نفسه، وهو على الأغلب محق، أندريس الذي بدأ مسيرته كجناح تحول في ما بعد لمحور لعب في المنتصف، وهو ما رآه فيه بيب منذ أول مرة شاهده يلعب للأكاديمية، وكأنه أصبح مزيجًا بين نفسه وتشافي، أيقونة وسط البرسا، حتى «فيانوفا» كان له نظريته الخاصة عن أندريس الذي «ينزلق» من جانب لآخر كلاعبي الهوكي أثناء المراوغة، فقط لو كان بإمكان لاعبي الهوكي الدوران بهذه السلاسة والانسيابية، لكنه تناقض إضافي يحتفظ به أندريس لنفسه.

ولكنها العادة الكريهة التي يكتسبها التكرار مع الزمن، أنه لا يمنحك الفرصة للالتفات للتفاصيل مهما كانت روعتها. الكثيرون قد يقولون إن فريق برشلونة الحالي قد نال من الصيت ما لم ينله أي فريق مشابه في التاريخ، ربما أكثر مما يستحقونه في نظر البعض، ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك صحيحًا ونحن لم نُمنح الفرصة لتقديرهم منفردين؟، ربما يكون من السهل ملاحظة الـ 1% التي تتجلى فيها أعظم تناقضات اللعبة وهي محاطة بعشرات العاديين الذين يملأون الملاعب، ولكن ماذا عن استثناء في فريق من الاستثنائيين؟ فريق كامل تقريبًا يأتي من نفس المساحة الضئيلة المشتركة بين الوفرة والتفرّد.

untitled1

أين يذهب ماركينيوس هذا المساء؟

أن تُوقف يومك كل يوم للاحتفاء بتفاصيل كأندريس لهو أمر شاق فعلًا، ما يدفعك للتساؤل عن المشقة التي يتطلبها أن تكون أندريس نفسه؛ حسنًا، لا شيء في الواقع لأن الفيزياء لا تبذل جهدًا، وفي هذا التشابه تحديدًا تقع عظمة إنييستا، لأنه لا يكتفي بالحدوث كالفيزياء بل هو يخدعك مثلها كذلك؛ تخيل أن التفاحة لم تسقط مباشرة بل انخفضت قليلًا ثم توقفت للحظة ثم انحدرت بسرعة في مسار متعرج، أي نظرية كان سيخرج بها نيوتن؟ فيزياء جديدة بلا شك؛ فيزياء جديدة طولها متر وسبعون سنتيمترًا وتزن 68 كيلوجرامًا، تغري الجميع بأن يحاول تفسيرها بالقوانين التقليدية فيظلمها، ثم تتكرر بانتظام فلا يقتنع بتفسيره ويذهب لما هو أبعد؛ أندريس رائع لأن مدافعي الليجا بائسون، حتى مدافعي البايرن والريال وتشيلسي ومانشستر يونايتد لم يعودوا كما مضى، أن تحاول إعادة بناء العالم كله لتفسير استثناء واحد فقط لأنك ترفض تصديقه.

هذا جزء مما يفعله أندريس؛ صناعة الوهم، يقول بيب إن من أصعب الأشياء في كرة القدم أن تصنع لاعبًا جيد من آخر سيء، هناك أشياء لا يتعلمها الناس بهذه البساطة؛ أن تمر من خصمك، أن تتقن توقيتك بهذه المثالية كل مرة تقريبًا، أن تتخلص من لاعبين وثلاثة في مناطقك وتصنع الأفضلية ثم لا يذكر اسمك في سجلات التهديف والتمريرات الحاسمة، أن تقبل بالعمل في الكواليس بينما يمكنك تصدر المشهد، لذا سيظل أوقع لقب أطلقه الأسبان على أندريس وأقربهم للحقيقة هو الـ «إليجونيستا – Illusionista» أو صانع الوهم.

سيظل أوقع لقب أطلقه الأسبان على أندريس وأقربهم للحقيقة هو الـ «إليجونيستا – Illusionista» أو صانع الوهم.

لا تبحث عن إنييستا في صورة برشلونة الجميلة المثالية التي تعلم أنه لن يتصدرها أبدًا، ولا تشعر بالأسف من أجله لأنه لم ينل حقه من الأضواء، أندريس ليس مجرد وجه في تلك الصورة؛ ليس هذا إلا وهم آخر صنعه الإليجونيستا، أندريس هو العائلة والمنزل الضخم والدخل الكبير، كل التفاصيل التي سأمتها لأنها تحدث كل يوم، تطل برأسها من آن لآخر لتذكرك كم أنت محظوظ وتجعلك تلعن التعود والألفة، أندريس ليس بنجومية الباقين ولن يكون، مشكلتك أنك تنظر للصورة بشكل خاطىء؛ تحاول تفسير توقف التفاحة في الهواء وتبحث عن إحصائيات مدافعي الليجا ولاعب هوكي يدور بنفس الانسيابية والسلاسة، دعك من كل ذلك فستتوه قبل أن تجد ما تبحث عنه لأن أغلب الصور تأتي بخلفية مموّهة، ربما لذلك لن يدرك أحد مدى روعة تلك الخلفية حتى تختفي أو تُستبدل أو تقرر الاعتزال.

اعلان
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن