رغم أنها منطقة حدودية استراتيجية، فضلًا عن كونها تعيش عامها الثالث من الحرب المستعرة بين الميلشيات المسلحة وقوات الأمن، إلا أن تغطية شمال سيناء في الإعلام السائد ملفتة في ضآلتها، خاصة مع تضييق مساحات الحركة المتاحة أمام الصحفيين من أبناء سيناء، التي صارت تقريباً خارج متناول الصحفيين من غير أبنائها، لتبقى السلطات الأمنية هي القناة الأساسية للمعلومات حول ما يدور في المنطقة التي مزقها النزاع.
أصبح من الشائع وجود قصة صحفية مكررة بذات النص في وسائل الإعلام كافة، معلنة أن مصدرها هو “الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري للقوات المسلحة” على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. وتنحصر معظم التغطية في قصص العمليات العسكرية الناجحة على مواقع المتطرفين، أو الخسائر في صفوف قوات الأمن.
“لم يعد أحد يستطيع الحصول على المعلومات، سواء إعلام الدولة أو الإعلام الخاص”، يقول مصطفى سنجر، وهو صحفي سيناوي يعمل في جريدة الشروق الخاصة، ويضيف: “الوصول إلى موقع الأحداث في سيناء أصبح شبه مستحيل . المصادر الرسمية لا تعطي أية معلومات، والإعلام السائد كله يعمل في ظل قيود شديدة، ناهيك عن التهديد بالملاحقة القانونية”.
في مقابل تلك الرواية “المعسكرة” لجأ بعض سكان سيناء إلى فيسبوك لملء فجوة المعلومات عن بعض المدن المضارة بالنزاع، مكونين شبكات أصبحت بمثابة مصادر جديدة للأخبار للسكان المحليين.
“لسنا صحفيين لكن واقعنا فرض علينا نقل معاناة أهلنا” يقول أحد مؤسسي صفحة أنباء سيناء 24، إحدى صفحات فيسبوك التي تدار محليًا من شمال سيناء، والذي تحدث مع “مدى مصر” مشترطًا عدم ذكر اسمه.
أُنشئت الصفحة في سبتمبر 2013 ويتابعها حاليًا أكثر من 135 ألف شخص. كما استخدمتها وكالات أنباء دولية كبرى -بما في ذلك رويترز و فرانس 24- كمصدر، إلا أن الإعلام المحلي نظر إلى هذا النوع من صحافة المواطن بكثير من التشكك.
المصدر التابع لصفحة أنباء سيناء 24 يقول إن الصفحة أُنشئت بعد وقت قصير من بداية العمليات العسكرية في سيناء في عام 2013، والتي جاءت بعد الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين في القاهرة، وما تلا ذلك من عنف اندلع في شبه الجزيرة المضطربة بالفعل قبل ذلك الوقت. وبعد أن لاحظوا أن الصحفيين المحليين يهربون من المنطقة أنشأ المديرون هذه الصفحة ليتناولوا ما شعروا بأنه “تزييف إعلامي للحقائق بشأن النزاع”.
تطورت الصفحة مع الوقت وأصبحت الآن تنشر تدوينات بمعلومات مقتضبة لتسهيل التقاطها بواسطة وكالات الأنباء. كما تنشر أيضًا وصفًا مفصلاً للأحداث لتضيف الأسماء والوجوه للأنباء الجافة التي تصدر في تصريحات القوات المسلحة.
كثيرًا ما تنشر الصفحة صورًا لضحايا العنف مصحوبة بروايات عن هوياتهم، مدعية أن بعض ممن تعلن القوات المسلحة قتلهم في تبادل إطلاق النيران أحيانًا ما يستهدفون بشكل عشوائي.
من أوائل الخبطات الصحفية التي نشرتها الصفحة كان فيديو يُظهر شخصين يتم تعذيبهما حتى الموت بواسطة الجيش. كانت القوات المسلحة قد أعلنت أن الرجلين قتلا في مواجهات مسلحة. وقد التقطت وكالات أنباء هامة الفيديو الذي شمل صورًا تفصيلية، إلا أن مدير الصفحة يعتقد أن الفيديو حقق ما هو أهم من ذلك.
“شعرنا بدورنا الحقيقي عندما جعلنا من الشباب وكبار السن يتحدثون بلا خوف عمّا يلاقوه من ظلم، وكانت أول حادثة نشرناها وكسرت حاجز الصمت عند أهل سيناء عامة وأهل المناطق الحدودية خاصة”، يقول مدير الصفحة، مضيفًا أن الناس كانوا خائفين جدًا من الحديث حتى حين كانوا يقرأون تقاريرًا زائفة عن مقتل ذويهم وأحبائهم تصفهم بأنهم إرهابيون، وهو ما تفعله وسائل الإعلام في كثير من الأحيان مستندة إلى مصادر عسكرية. ولكن بعد تزايد المشاركين على الصفحة وظهور صفحات مشابهة بدأ السكان يسعون إلى كشف حقيقة الانتهاكات التي يتعرضون لها.
إلا أن هذا العمل يظل محفوفًا بالمخاطر. يشرح لنا مدير الصفحة أن قوات الأمن تمنع استخدام الكاميرات في سيناء كلها، خاصة في محيط الوحدات العسكرية. ويضيف أنه إذا ألقي القبض على شخص بحوزته صور على الكاميرا الخاصة به فإن ذلك قد يؤدي إلى اعتقاله أو ما هو أسوأ.
“نحن نعتقد أن علينا دور وطني في رفع الوعي بشأن ما يحدث في سيناء لأننا نرى ما لا يراه آخرون”.
يقول مدير الصفحة إن عددًا من المساهمين بالصفحة ألقي القبض عليهم بالفعل، وبعضهم تعرض لمواقف خطيرة. وقد أنشأ مديرو الصفحة صفحة احتياطية، بالاسم نفسه، يلجأون إليها حين تُغلق صفحتهم، وهو ما يحدث كثيرًا حين يتم الإبلاغ عمّا ينشروه لإدارة فيسبوك بشكل جماعي، فيما يعتقدون أنها حملات ينسقها الأمن.
ويستدرك قائلًا إن المتطرفين يمثلون تهديدًا آخر، إذ أنهم بدورهم ينتقمون من محاولات الشهود المستقلين توثيق العنف.
يوضح مدير “أنباء سيناء 24” أن الصفحة تعتمد على شبكة من المراسلين المتطوعين، كلٌ يراسل من المنطقة الخاصة به كي لا يلفتون النظر باعتبارهم غرباء عن المكان. ويضيف أن الصفحة حازت ثقة الناس من خلال آلية للتأكد من الأنباء حيث يراجعون الوقائع من أكثر من مصدر موثوق به قبل نشرها.
يقول: “نحن نعتقد أن علينا دور وطني في رفع الوعي بشأن ما يحدث في سيناء لأننا نرى ما لا يراه آخرون”.
توفر تعليقات السكان المحليين أداة إضافية للتأكد من مصداقية المعلومة. إذ أن أغلب الأخبار المنشورة على الصفحة، سواء كانت حول انقطاع الكهرباء أو الانفجارات في منطقة ما، يتلوها في التعليقات مزيد من التفاصيل والتأكيدات أو الإنكار أو التصحيحات التي يشارك بها سكان المنطقة المعنية.
أحد سكان العريش، يبلغ من العمر 33 عامًا، تحدث مع “مدى مصر” شريطة عدم ذكر اسمه، يقول إن السكان أصبحوا يعتبرون مبادرات صحافة المواطن المحلية مصدرًا رئيسًا للمعلومات، في الوقت نفسه الذي يتعاملون فيه مع تلك الأنباء بقدر من الحذر؛ لوعيهم بالانحياز السياسي للصفحة في حالة من الاستقطاب السياسي الشديد. ويقول إنه من خلال ملاحظة عملهم أصبح السكان المحليون يربطون بين كل صفحة وبين معسكر معين.
يصف الشاب هذه الصفحات بأنها “البديل الوحيد لمعرفة ما يدور ولا نراه بأعيننا، وإذا نشروا معلومات خاطئة فهناك الكثيرون ممن يدخلون على الصفحة ويصححون لهم”.
ويقول ساكن العريش، على سبيل المثال، بسبب قربها من الأحداث وقدرتها على بث فيديوهات الأحداث فورًا بعد حدوثها، يشك الناس أن صفحة “أنباء سيناء 24” مرتبطة بالجماعات المسلحة إلا أنهم يثقون في أخبارها رغم ذلك.
أما صفحة أنباء شمال سيناء فمعروف انحيازها للجيش، بحسب الشاب الذي تحدث مع “مدى مصر”، والذي يعتقد أن القائمين عليها يحصلون على الأنباء من مصدر أمني مباشرة. ورغم حذره من توجههم، إلا أنه يستخدم الصفحة للحصول على أنباء بشأن آخر الهجمات أو الأنباء الأخرى التي تعد سلطات الأمن مصدرها الأساسي، خاصة مع كون الصفحة أول من يحصل على تلك الأنباء.
يقول ساكن العريش كذلك أن خواطر سيناوي، وهي صفحة أخرى شهيرة، معروفة بكونها معارضة ومنحازة للناس، مؤكدًا أنه يثق في هذه الصفحة على وجه الخصوص.
فيما قال أحد مديري صفحة “خواطر سيناوي” لـ “مدى مصر” أنهم أنشأوا هذه الصفحة لأن الاعلام الرسمي يتعمد تجاهل ما يحدث في سيناء. وأوضح أن الصفحة تهدف إلى تجاوز الأزمة الحالية “وتذكير الناس بالجوانب المنسية في سيناء”.
إلى جانب نشر الأنباء، تنشر صفحة خواطر سيناوي عن الحالات التي تحتاج إلى دعم خيري، كما تنشر أنباء الوفيات وتواريخ الجنازات، بل وتشارك جمهورها في ألعاب مجتمعية خفيفة. وبدورها، تعتمد الصفحة على المراسلين المتطوعين في جمع الأنحاء.
أما “سنجر” فيرى أن هذه الصفحات المدارة بواسطة أفراد محليين نجحت في تغطية أنباء مناطق من سيناء غالبًا ما تكون غائبة عن قنوات الإعلام الرئيسة، كما أنها حصلت على دعم عدد كبير من السكان المحليين الذين يساعدونهم في الوصول للمعلومات. إلا أنه يعتقد أنهم مسيسون بالدرجة التي لا تجعلهم مصدر إخباري يُعتمد عليه.
يقول: “الصفحات تُدار بميول سياسية بعيدًا عن الموضوعية ولا تقدم المعلومات الكاملة”، لافتًا إلى تركيز بعض هذه الصفحات إلى حد كبير على انتهاكات قوات الأمن.
في محاولة لسد النقص الذي تعانيه الصحافة المهنية في شبه الجزيرة، أطلق سنجر الموقع الإخباري الوحيد المرخص في سيناء، “تليفزيون سيناء الآن”، الذي يستهدف تجاوز الأنباء وإنتاج برامج أسبوعية تناقش شئون سيناء. إلا أن المشروع أجهض -بسبب صعوبة إيجاد فريق عمل مهني فضلًا عن الوضع الأمني المتدهور في سيناء- مخلفاً صفحة على فيسبوك جمعت حوالي 135 ألف متابع.
لكن، وبرغم أوجه قصورها، تبقى تلك الصفحات هي البديل الوحيد للإعلام السائد، الذي يصفه “سنجر” بأنه غير قادر وغير راغب في تغطية أحداث سيناء.
يختتم “سنجر”: “حالة الإعلام في سيناء هي ذاتها في كافة أنحاء مصر، لا توجد مهنية ولا تحصل منه سوى على جزء من الصورة”.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن