زِج زجِ: محاولة قطع المسافة المستحيلة نحو اغتصابات 1919
 
 

عندما جاء الجنود البريطانيون إلى بيوت أهالي قرية نزلة الشوبك عام 1919 قالوا للأهالي زِج زِج، حسب المرأة القروية التي اتهمتهم بالاغتصاب. عرفنا ذلك من خلال الأرشيف الذي استعرضه عرض ليلى سليمان المسرحي الجديد ويحمل نفس العبارة عنوانًا له.

حدث ذلك أثناء ذروة الحركة الوطنية، وكان البريطانيون يعاقبون المتمردين بقسوة—وفي حالة هذه القرية القريبة من الجيزة قطع المتمردون السكك الحديدية. ولكن ما ميّز نزلة الشوبك عن غيرها أن النساء بلغن عن الواقعة. تولى الوطنيون الدفاع عن القضية ونقل بعض شهادات النساء في منشورات نسقها حزب الوفد الوطني. ترجم الحزب أجزاءً منها وقتها بالإنجليزية وضموها إلى ملف قُدم للبريطانيين.

بعد شهرين أجرت بريطانيا تحقيقها العسكري في ثكناتها بشارع قصر العيني بالقاهرة، بخصوص الادعاءات الزاعمة أن الجيش نهب القرية وأحرقها وارتكب فيها جرائم اغتصاب وقتل. وكان رأي المحكمة العسكرية أن روايات أهل القرية محض أكاذيب من البداية للنهاية“.

لا توجد وثائق تسجل هذه الشهادات بالعربية. ويقوم عرض زِج زجِعلى استخدام الوثائق الموجودة بأرشيف وزارة الخارجية البريطانية.

كانت الوثائق الأرشيفية، والتي تكشف قصص نساء أغفلتها السرديات الاستعمارية والوطنية، ثيمة ساحرة بالنسبة لي. ولذا حاولت جاهدة تحديد السبب الذي جعلني أجد هذه المسرحية، وقد عُرضت لأول مرة في مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة في منتصف شهر أبريل، مملة.

يبدأ العرض بخمس نساء جالسات خلف مكاتب مصفوفة في مؤخرة المسرح. إحداهن تلعب الكمان، وأخرى تقرأ الوثائق الأرشيفية التي تصف المشهد، بينما تؤدي الأخريات حركات تحاكي تصفح الوثائق. أعجبني هذا الشكل. كن يتحركن على المسرح ثم يعدن إلى المكاتب في حركات تجمع بين الرقص والغناء والتمثيل. كل منهن تلعب دورًا مختلفًا في أوقات مختلفة، القراءة من الأرشيف، التفكير في ما قرأن، تقمص شخصيات الجنود أو وكيل النيابة المصري أو النساء أنفسهن اللاتي يدلين بشهادتهن، ويجبن على أسئلة قاسية توجهها المحكمة العسكرية البريطانية.

يتكون النص الذي يمثلنه من فقرات مأخوذة من الشهادات ووثائق أرشيفية أخرى، كما يتضمن اقتباسات خرجت بها الممثلات أثناء ورشة العمل على الوثائق. ويعد هذا النسق من العلامات المميزة لسليمان، فمعظم أعمالها لا يتكون من نصوص كتبتها بنفسها، بل نصوص نسقتها بعناية، سواء كانت رسائل أو نصوصًا أرشيفية أو نصوصًا ناتجة عن ورش عمل.

يذكر الكتيب الذي يوزع مع العرض أن زِج زِج يبث […] الحياة في هذه اللحظة من التاريخ،مضيفًا أن “[المؤديات] ينسجن الخيوط بين المادة التاريخية وتجاربهن الشخصية في سياق ثقافة الاغتصاب المعاصرة، يتساءلن عن سبب تكرار إسكات قصص النساء عن الاغتصاب، وعدم تصديقها والتقليل من شأنها، ثم يسألن: ما الذي تغير؟

تتساءل الممثلات في المسرحية عما حدث للنساء بعد تقديم شهاداتهن. هل نبذهن المجتمع وحكم عليهن كما يحدث الآن؟ في تقديرهن—وهو تقدير صحيح على الأرجح— أن أحدًا لم يكن ليلتفت لهؤلاء النساء لولا نفعهن للقضية الوطنية.

رُويت الشهادات بالإنجليزية مع عرض ترجمة بالعربية على شاشة خلف الممثلات. وأعجبني أن سليمان لم تروِ الشهادات بالعربية مدعية استخدام نفس الكلمات التي تحدثت بها هؤلاء النساء. جاء اختيار اللغة الإنجليزية اعترافًا بالمسافة التي تفصلنا عن هؤلاء النساء والتي يتعذر تجاوزها. لكن في ما عدا ذلك شعرت أن هذه المسافة مغفلة في المسرحية، بل ومنكَرة حتى. ففي محاولتها بعث الحياة بالشهادات زادت هذه المسافة اتساعًا.

قد يكون من الأفضل، خصوصًا في ما يتعلق بالعنف الجنسي، ألا نحاول تصوير العنف نفسه طالما أننا لن نصور بشاعته بالكامل أو أننا غير قادرين على ذلك. ففي أغلب الأحيان يخرج تمثيل العنف المفرط إما بصورة رديئة (ما يؤدي لفشله) أو بصورة تشير إلى أهواله (وقد ينجح في هذه الحالة). أظن أن سليمان سعت إلى استخدام أسلوب الإشارة من خلال الرقصات المضمَّنة بالعرض. فبينما تحكي إحدى النساء عن الاعتداء الجنسي، ترقص أخرى حولها وهي تشد شعرها بيدها وتنفض رأسها جانبًا من عنف الحركة. وهناك مشهد آخر يقدم وصفًا للاغتصاب بمصاحبة امرأة تحاكيه جزئيًا بقيامها بتمرينات الضغط. والغريب أن الرقصات المصممة مع النزعة الواقعية للبكاء قلَّلت جدًا من الأهوال التي واجهتها هؤلاء النساء، وضاعفت المسافة بيني وبينهن.

شعرت بانفصال شديد في أول مرة يجهش صوت إحداهن بالبكاء وهي تروي ما حدث لها. كنت مدركة أن المقصود أن أشعر بالعكس. لكني كنت منزعجة. هل بكت امرأة نزلة الشوبك أكثر وهي تصف سرقة أدوات مطبخها وسلبها مصاغها، أم عندما ضُرب زوجها أمام أعينها بالنار، أم عندما اعتُدي عليها؟ من نحن لنقرر ذلك؟ إن بكاء النساء وهن يحكين ما حدث لهن أكبر مؤشر على المحاولة الفاشلة بشكل غير مدرك، لإنشاء الرابط الذي تقوم عليه المسرحية.

تتحدث إحدى الممثلات عن تجسيد ألم هؤلاء النساء بهدف عدم وقوعهن فريسة النسيان مرة أخرى أبدًا، بينما تؤكد أخرى أن تحقيقات الجنود البريطانيين، رغم بشاعتها، مكنت هؤلاء النساء من الحضور مجددًا. وفي مشهد آخر تعلن ممثلة أن نساء القرية كلهن حاضرات، حتى ولو لم يكن ذلك من خلال أصواتهم الحقيقية. لكن ما شعرته تجاه هؤلاء النساء كان غيابًا وحسب، ولم أشعر سوى بحضور نساء معاصرات يحاولن اختصار المسافة واستعادة أخريات وفقًا لرغباتهن الشخصية. ومع هذه المحاولة المستحيلة—لاجتياز مسافة يتعذر تجاوزها—والفشل في تأمل هذه الاستحالة، ثمة عنف غير مقصود في زِج زجِ“.

قبل نهاية العرض تتخيل إحدى الممثلات امرأة اسمها عائشة تعيش مع ألمها دون أن تنكسر. ربما تكون قد انكسرت، وربما لا، لكن هذه الحاجة إلى تصويرها بشكل جسور وصامد هي ما نسقطه نحن عليها. في رأيي كانت المسرحية لتسير بشكل أفضل لو حاولت الحديث عن هذا، عما تعنيه محاولة الوصول إلى الماضي واستعادة ما غلفه النسيان ولونته رغباتنا.

كنت أتمنى أن أشهد اكتشاف هذا التفاعل بين الحضور والغياب بدلًا من انهياره. كنت أريد أن أستشعر في تناول الكاتبة والممثلات للشهادات، أنهن قد فكرن في الأسئلة الشائكة التي طرحتها جاياتري شاكرافورتي سبيفاك في مقالها الذي كتبته عام 1988 بعنوان: “هل يستطيع التابع الكلام؟لا نزال غارقين في انشغالنا الثقافي بالأرشيف والتابع،وهو مصطلح كان أنطونيو جرامشي أول من استخدمه للإشارة إلى الشعوب المقصاة خارج أشكال القوى المهيمنة. حتى لو لم تتفق صانعات زِج زجِمع نظرية سبيفاك القائلة بإن التابع غير قادر على الكلام—وتقصد سبيفاك بذلك على نحو ما أن التابع غير مسموع أيضًا— كان العرض ليصبح أكثر فاعلية، إذا جرى الاشتباك مع هذه الأسئلة الصعبة عن التمثيل، ومع العنف الكامن عادة في إيماءات بسيطة لكسر الصمت، وإعطاءصوت للمقموعين.

كثيرًا ما يكون فعل التذكر هو نفسه فعل النسيان أيضًا. على سبيل المثال، ما نتعلمه عن حركات الحقوق المدنية في أمريكا يجعلنا نؤمن بأن التاريخ صنعه أفراد ذوو رؤية (وغالبًا ما يكونون رجالًا) في لحظات تاريخية فاصلة، وليس عن طريق حركات جماعية. من الممكن إعادة اكتشاف أهمية الجموع من خلال قراءة روايات بديلة تعيد سرد تاريخ الحركات. يخبرننا في زِج زِجأن اﻷهالي علقوا لافتة في نزلة الشوبك للتذكير بأحداث 1919، ولتخليد ذكرى مقتل 19 رجلًا وامرأتين—دون ذكر وقائع الاغتصاب. لكن رغم محاولة زِج زجِإلقاء الضوء على ذلك من خلال تقصي الوثائق الأرشيفية وخلق سرديات بديلة، لم ينجح العرض أيضًا في إخباري أو تذكيري بأي شيء مفيد. في النهاية تعاطفت مع نساء كنت أتعاطف معهن بالفعل، في قصة عن اﻷبطال (البطلات)، ومن يشتبه في بطولتهم (رجال القرية)، واﻷشرار (البريطانيين).

وجدت نفسي أطرح أسئلة نفعية وسطحية: إن كنا غير قادرين على الحديث مع فلاحات اليوم، فلماذا نتجه إلى فلاحات الماضي؟ هل استعادة القصص كافية في حد ذاتها؟ ولأني لا أحب الشعور أني مجردة من المشاعر إلى هذا الحد، تساءلت عن سبب أسئلتي، وأدركت أني لو كنت انخرطت أكثر في الأمر لما سألت مثل هذه الأسئلة—بل كنت على الأرجح لأطرح أسئلة أكثر إثارة للاهتمام، وأدركت أن معظم ما يثير الاهتمام في زِج زجِقد طُرح في البداية، لكن لو كان تحري الموضوع على المسرح أكثر حرصًا، وربما أكثر إرباكًا، لتمكنت أنا أيضًا من تحري علاقتي بهؤلاء النساء وشهاداتهن التي جاءت مترجمة عبر وسيط. ليس ضروريًا أن يكون للعرض جدوى سياسية، بل يجب أن تكون في المقام الأول قصة جيدة، حكاية مثيرة للاهتمام تنسج أمامنا.

اعلان
 
 
نايرة أنطون 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن