ترى متى يثور الناس على أوضاعهم المُجحِفة؟ سؤال كثيرًا ما يُطرح وكثيرًا ما توضع له إجابات نظرية، لكنه لا يحظى بردٍ ثابت محُدَدَّ وقابل دومًا للتطبيق. يقول بعض علماء الاجتماع إن الناس تثور حين تصبح ظهورها إلى الحائط، حين لا يعود في جعبتها ما تخسره، وتصبح المعادلة صفرية. يقول آخرون إن الثورة لا تتأتى إلا في وجود هامش مِن الحريات، يسمح بالحشد ونشر الوعي والتنظيم، وأن القمع الكامل يصعب أن تُولد مِن رحمه ثورة.
لم يتصور أغلب المفكرين والباحثين في أواخر عهد مبارك أن حِراكا ثوريًا قادمٌ على الطريق، لكنه وقع وفاجأ الجميع حتى من قاموا به وشاركوا فيه. خلال سنوات خمس مِن تنحي مبارك، تغير رأس الحُكم مرات أربع، إلى أن استقر نظام قمعيّ آخر، بدا وطيد الدعائم والأركان. لم يتصور أحدٌ -كما المرة الأولى تمامًا- أن حِراكًا نِقابيًا عارمًا سينشب، وأن موطنه سيكون “دارَ الحِكمة”، ووقوده الأطباء؛ هؤلاء المنشغلون أبدًا، المنكفئون على مَراجعهم عمرًا، الساهرون على أطنانِ القهوة، والساعون في نهاية الأمر إلى مغادرة الوطن لسنوات خليجية تكفل لهم معيشة لائقة، فقط لائقة، لا مَهانة فيها ولا إذلال.
مرة أخرى: متى تأتي النقطة الفاصلة؟ ما هو الحدُّ الذي ينتفض عند بلوغه الناس؟ أمر لا يمكن أبدًا معرفته وخاصة في مصر، حيث التضليل الخطابيّ على أشده، وحيث السُلطة تهيمن على وسائل الإعلام، وحيث القسم الأعظم مِن صُناع الرأي يخطبون ودَّ النظام لأسباب ودوافع يطول في سردها وتفسيرها الحديث.
لم تكن حشود الأطباء في جمعة الثاني عشر مِن فبراير متوقعهً. لم يتصور أحدُ الذاهبين إلى “دار الحِكمة” في أقصى الخيالات شططًا وطموحًا، أن يجد نفسه مَحمولا كما في فيلم “الإرهاب والكباب” وسط الآف الناس، ينتقل معهم كتلة واحدة، فيسجل اسمه في كشف يجد فيه مكانًا خاليًا بالكاد، يحاول دخول القاعة للإدلاء بصوته فلا يتمكن إلا مِن حجز سنتيمترات في شارع قصر العيني. رأيت بعيني الاستماتة في عيون وأجساد المحتشدين. تنازعنا على تسجيل أسماءنا في الكشوف المختومة لنيل شرف الحضور، وإثبات المشاركة في حدث عددناه جللا.
ما جرى ذاك اليوم في نقابة الأطباء يؤكد ألا شيء قيد الحسابات. لا شيء خاضع للتنبؤات ولا للتكهُّن. لا نتائج مبنية على شواهد سابقة، ولا على مُعطيات ومُؤثرات راهنة. لم يكُن حادث اعتداء أفراد الشرطة على الطاقم الطبي بمستشفى المطرية هو الأول مِن نوعه كما لم يعُد الآن الأخير، لم تكن هذه الوقائع تحديدًا استثناءً بل تكرارًا واستنساخًا، لكنها بدت وحدها وقد استنفرت الجموع. ربما هو الأثر التراكمي الذي يضاعف الغضب ويحيله فعلا، ربما هي مشاعر الهوان الفائضة عن الحدّ. ربما هو الخذلان بعد انهيار الأمل في إصلاح حقيقي والاقتراب مِن خانة الصفر.
برغم محاولات السُلطة -على اختلاف أوجهها- تشويه الحِراك النقابيّ الوليد، برغم سعيها إلى تأليب الجماهير واستمالتها نحو الخطاب الممجوج الذي يُسيء إلى كلِّ مَن يطالب بحقٍّ دستوري لا جدال فيه، برغم استعانتها بالتعبيرات الجذابة المتعلقة بحماية الوطن مِن التخريب، وبحربها المقدسة ضد “الإرهابيين” كي تُخرِسَ الجميع، برغم انضمام دار الإفتاء إلى حملة وَصم النقابيين طمعًا في وأد الحِراك على أُسس دينية، برغم إعلان مرصد الفتاوى التكفيرية رصده “أصواتًا إخوانية” وراء الأزمة، وتصريحه بأنها تعمل على النيل مِن أمن الوطن وسلامته، برغم استغلال الدين كما هي العادة في ما لا علاقة له بالدين تزييفًا لوعي الناس، برغم إلقاء اللوم على الأطباء وكأنهم المسئولين عن تدهور الخدمات الصحية، لا الذين يقتطعون من موازنة الدولة ليضيفوا إلى أنصبة الأجهزة الأمنية ثم يوزعون الاتهامات على الآخرين، برغم هذا كله، أظن أن محاولات السُلطة ستبوء إن آجلا أو عاجلا بالفشل العظيم، فالأكيد أن ثمَّة حِراكًا شعبيّا أصيلًا لا علاقة له بفصائلٍ سياسية مُعارِضة. ثمَّة حِراك يتعلق بخيبة أمل كبيرة تكتنف فئات عدة مِن المواطنين، ولا تقتصر حتمًا على الأطباء.
أما عن حديث جماعة الإخوان المسلمين “الإرهابية” ذات القدرات الخارقة التي تمَكِّن قادتها مِن تدمير الدولة وهم ملء سجونها، فقد صار مثيرًا للملل لا يصلح لمواصلة التلاعب بالعقول، يتراجع عن تصديقه يومًا بعد يوم أناس عاديون؛ لا لشيء إلا أنهم صاروا هم أنفسهم مُتهمين ومُدانين، فكلُّ مواطنٍ يطلب حقَّه في عيشٍ كريم، مُتهم بأنه إخواني ثم إرهابي بطبيعة الحال المزرية. المواطن إرهابيّ ما لم يصمت عن حقّه والطبيبُ خائنٌ عميلٌ ما لم يُحن رأسَه ويتلق صفعات وركلات الأمين، راضيًا سعيدًا، مستعدًا للمزيد.
الحلول المطروحة على استحياء مِن قبل المسئولين هي حلول شديدة السطحية حتى اللحظة، لا تطرق جذور الأزمة ولا تضع النقاط فوق الحروف. يمثلها أفضلَ تمثيلٍ ذاك المقترح الصادر عن وزير الصحة بعقد جلسة مشتركة يحضرها وزير الداخلية، تضمُّ الجناة مِن أُمناء الشرطة والضحايا مِن الأطباء، وكأني بالوزيرين جيران، يشكو أحدهما للآخر فِعلَ الأبناء الأشقياء. على أفضل تقدير نرى مشهدًا لأب مغلوب على أمره، يعاتب أبًا قويًا في خجل، ويربت على كتفه مُتسولا ما يجبُر خاطره ويكفيه الحرج أمام الآخرين، وكأن الأمر مَحض عراكٍ عاديّ ومقبول، نشأ بين أطفال يلعبون سويًا، ولا يجب أخذه بطبيعه الحال على مَحمَل الجدِّ، وكأن المجتمع على الهامش، لا يدخل في المسألة طرفًا أصيلًا برغم أنها تمس أمنه وسلامته وصحته بأكثر مما تفعل القضايا الزائفة التي تروج السلطة لها. أقول على أفضل تقدير، لأن الوجه الآخر للمشهد يحمل رائحة التواطؤ. جلسات التراضي العرفي، الإجباري في أحوال عديدة، تعني تغييبًا للقانون وتغليبًا للمعتدي على المُعتدى عليه، وبالتالي دعوة لتكرار الأمر، وقد هلَّت للأسف بشائر هذه الدعوة وتعاقبت في الأيام الأخيرة، فتوالت الاعتداءات والانتهاكات على المستشفيات مِن قبل الشرطة، مع ذلك فإن كلَّ خطوة إضافية تجاه القمع تكشف سوء النوايا، وتفضح رؤية النظام القبيحة، وهي من ناحية أخرى تزيد حنق الجموع المتضررة، تشعل حماستها، وتدفع العشرات والمئات وربما الآلاف إلى التضامُن والتصعيد.
لا تريد السُلطة أن تصدق أن الأشخاص العاديين، مِن غير أصحاب القضايا السياسية الصريحة، الذين لم يدّعوا يومًا البطولة ولم يرفعوا رايات النضال ضد سطوتها واستبدادها، قادرون على الوقوف أمام الظلم، عاقدون العزم على الصمود. لا تصدِّق السُلطة أنهم يملكون قدرًا مِن العناد قد لا يملكه آخرون، وأنهم يتشبثون بما يتفاوض عليه المنغمسون في ألعاب السياسة. لا يعجبها أنهم لا يُنظِّرون كثيرًا ولا يساومون طويلا ولا يبررون التغاضي عن حقوقهم الأساسية بفلسفات خائبة عقيمة، فهم إما سائرون إلى قلب المعركة أو عنها عازفون، بلا طنطنة ولا أحاجي ولا تسويف، وأظن في تلك التحركات الأخيرة قوة الحشود التي غابت عن الساحة في الفترة الماضية، لكن روحها لا تزال متوهجة حية. سوف تتواصل الحركة النقابية برغم ما قد يعترض طريقها مِن معوقات وصعاب، ستنمو وتحقق المكاسب، وتدفع معها آخرين لتحقيق انتصارات مماثلة.
عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر
أشترك الآن