“الأدب” يُحاكم في مصر

في أغسطس 2014، وجد مواطن مصري يدعى هاني صالح توفيق مصادفة العدد رقم 1097 من جريدة أخبار الأدب الأسبوعية. أثناء قراءته لصفحات قسم “إبداع”، قال إنه أصيب باضطراب في ضربات القلب، وانخفاض في ضغط الدم، وتعرض لوعكة صحية شديدة. ذهب توفيق إلى المحكمة وقدم بلاغًا ضد كل من صاحب النص، الروائي والصحفي المصري أحمد ناجي، ورئيس تحرير أخبار الأدب طارق الطاهر لنشره “مقالاً جنسياً” أصابه بأضرار ليست فقط صحية وأخلاقية، ولكنه قال إن المقال يُسيء للأخلاق والآداب العامة.

النص الذي أحدث كل هذا هو فصل من رواية “استخدام الحياة“، أحدث أعمال ناجي (دار التنوير – 2014). وهو يحتوى أوصافًا جنسية صريحة- كما هو الحال مع الكثير من الأعمال الأدبية العربية (انظر كتاب “الحب والجنسانية في الأدب العربي الحديث”، 1994).

في 14 نوفمبر، ذهب ناجي وطاهر ليدافعا عن نفسيهما وعن الرواية أمام محكمة الجنايات. (وسيمثلان مجدداً أمام المحكمة غدا السبت الموافق 12 ديسمبر). يواجه المؤلف ما يصل إلى سنتين من الحبس أو غرامة تصل إلى 10 آلاف جنيه إذا وجد مُذنِباً، إذ تقع التهمة تحت طائلة المادة 187 من قانون العقوبات، والتي تتحدث عن حماية الآداب العامة. الطاهر أيضًا متهم لإهماله مسؤولياته كرئيس تحرير أخبار الأدب، حيث قال للنيابة إنه لم يقرأ الفصل قبل أن يسمح بنشره.

كتب ناجي على حساب فيسبوك الخاص به أن الاتهام الموجه إليه يعد النص المنشور مقالاً، وليس جزءاً من رواية، والتي هي بطبيعة الحال عمل أدبي. لم يُفهَم الفرق بين “الصحافة” (المفترض أنها تستند إلى أحداث حقيقية) و”الرواية” (المعتمدة في الأساس على الخيال). لذا وجدت النيابة أن أفكار بطل الرواية “باسم بهجت” وسلوكياته، المُضِرة بالأخلاق العامة، تعود في الواقع على المؤلف نفسه.

يُسرَد الفصل في الواقع بضمير المتكلم؛ يحكي عن يوم عادي من حياة باسم (23عامًا) في القاهرة، المدينة المُنفِّرة، التي لا تنام، بل يتمدد نشاطها وتنفث بحركة غير عادية. يجد باسم عزاءه وسط أصدقائه، فمعهم يقضي الليل في تدخين الحشيش، شرب الكحول، الاستماع إلى الموسيقى والحديث عن الجنس. تبدو هذه المجموعة من الأصدقاء هي الشيء الوحيد الذي أعطته إياه هذه المدينة. يقضي باسم اليوم التالي في جزيرة الزمالك، الحي الأكثر هدوءًا وخُضرة، مع حبيبته السيدة “ملعقة”، كما يحب أن يدعوها بسبب الأقراط التي ترتديها. تُوصَف بأنها مسيحية مصرية، تعلمت في الخارج وتكبره بتسع سنوات، وقد قررت أن تعيش الباقي من حياتها في مصر، ولكنها لم تعد تُرجِح احتمالية أن تكون هناك علاقة بينها وبين رجال من عمرها. تبدو جزيرة الزمالك والراحة التي يشعر بها في منزل حبيبته ملاذاً في مدينة غير مستقرة. يتوَّج الفصل بوصف مشهدي وشعري لممارستهما الجنسية. وينتهي بباسم محاطًا من جديد بأصدقائه، محدّقين في الغروب من على قمة جبل المقطم.

مُستخدِماً لغة القرن التاسع عشر ومصطلحاته، يصف وكيل النيابة الفصل بأنه “مادة شهوانية” ويتهم ناجي باستخدام عقله وقلمه لـ”أغراض خبيثة تنتهك حرمة الآداب العامة”، متجاهلًا حقيقة أن الرقابة المصرية سمحت بدخول الرواية إلى مصر، عند استيرادها بعدما طبعتها دار التنوير في لبنان.

رواية ناجي ليست الكتاب المصري الأول الذي يذهب إلى المحكمة لنشره أموراً “لاأخلاقية”. ففي 2008، حدثت تجربة مشابهة لذلك مع مجدي الشافعي بعد نشر روايته المصورة “مترو“. وقد غُرِّم المؤلف وناشره خمسة آلاف جنيه، وصودِرت “مترو” ومنعت من النشر حتى قبل سنتين من وقتنا.

****

ولكن أخبار محاكمة ناجي ذكرتني لحظة سماعها بقصة محاكمة المؤلفة اللبنانية “ليلى بعلبكي” عام 1964، وهي موجودة بالكامل في كتاب “نساء شرق أوسطيات يتحدثن” (1977). مثل ناجي، اتهمت بعلبكي بنشرها محتوى جنسياً صريحاً في كتابها “سفينة حنان إلى القمر” (1964). وُجِه إليها السؤال حول عبارتين: “كان يستلقي على مؤخرته، أخذ بيدي ووضعها على صدره، ثم تنقل بيده على بطني، لعق أذنيّ، ثم شفتيّ، أحاط جسده بي كلياً، استلقى فوقي وهمس وهو في نشوة أنني نضرة، ناعمة لدرجة خطيرة. وأنه لهذا، افتقدني كثيرًا.”

مثل حالة ناجي، كانت رواية بعلبكي قد نشرت قبل ذلك بتسعة أشهر، بعد أن حصلت على تصريح قانوني بطبعها ونشرها. وقد صودر الكتاب بعد هذا الاتهام (لا تزال رواية ناجي متاحة في المكتبات).

بعد ما يزيد عن 50 عام، يبدو تقرير محاكمة بعلبكي مكتوباً بلغة قانونية جافة، ولكنه ما زال يعطينا إشارات ويسلط الضوء على بعض المسائل الهامة المتعلقة بالأدب كممارسة، ومعنى الكتابة الروائية والرقابة. يُظهِر التقرير بعض النقاط التي يجب أن يشار إليها في الدفاع عن ناجي ككاتب، وفي الدفاع عن الأدب والإبداع عمومًا.

محامي الدفاع الخاص ببعلبكي، الذي أُشير إليه فقط بـ”سالم”، حصل على خطاب دعم من لجنة مفكرين لبنانيين معروفين، والذين طُلِب منهم قراءة الرواية وباقي أعمال بعلبكي قبل المحاكمة. قال سالم إن لجنة من هؤلاء سوف تكون قادرة بشكل أفضل منه على توضيح أن هذا العمل الذي يقع تحت المساءلة القانونية هو عمل أدبي؛ هدفه الارتقاء بالأدب عامة، وهو هدف بعيد بقدر ما يمكن عن إثارة الرغبة الجنسية لدى القاريء والإضرار بالأخلاق العامة. ومن بين النقاط التي أثارها المحامي واللجنة أثناء المحاكمة، واحدة تهتم بإيضاح دور الكُتاب وطبيعة الكتابة الأدبية:

أود أن أُذكِر المحكمة أن المدعى عليها هي كاتبة هامة. ماذا يمكن أن يكون الكاتب؟ هو الشخص الذي يحاول أن يتواصل بأفكاره/ا وعواطفه/ا مع الآخرين عن طريق الكلمات كوسيط. المؤلف/ة، أو الكاتب/ة، هو بمثابة الكاميرا، ولكنه/ا يصوّر الحياة بالكلمات، يخلق الصور بحيث يمكننا أن نرى أفكاره/ا ومشاعره/ا بوضوح.

في هذه الفقرة، يشرح المحامي أن كُتاب الأدب وُهِبوا حاسة خاصة تُمكِنهم من تفكيك الواقع المحيط وتصويره من أجل القراء. وعلى عكس الصحفي، الذي تعتمد كتابته على الحقيقة الواقعية والموثوق بها، يكتب الأدباء عن حقائق عاطفية وموضوعية مستندين إلى أفكارهم، ومشاعرهم، وعواطفهم.

في الفصل المنشور من “استخدام الحياة” والذي هو تحت التدقيق القضائي الآن، يبدو ناجي بعيدًا عن إعطائنا معلومات تفصيلية عن الشخصية؛ يركز على عواطف باسم ومشاعره عندما يتجول في المدينة. العلاقة الجنسية مصورة بطريقة واقعية، وهو أسلوب كتابة سائد في معظم الأدب العربي من بداية القرن العشرين. ناجي، تمامًا مثل بعلبكي، أعطى الأفعال والعواطف أسماء محددة ليُضفي واقعية على الفكرة التي يقدمها. قراءتي بيّنت لي أن الفقرة لم تكن تهدف لإثارة الرغبة الجنسية، ولكن لتُظهِر أن الجنسانية هنا تُمارس كملاذ آمن بعيداً عن المدينة الصاخبة الفوضوية، مدينة تميل لمحو إنسانيتنا. الجنسانية هنا تُمارس كفعل تحرر في مجتمع محاصر بالسلوكيات القمعية والمحافظة تجاه الجسد. هذا ما يؤكده باسم وهو يجتّر: “في هذه المدينة، محظوظون أولئك الذين يتخطّون مرحلة القمع الجنسي ويجدون أنفسهم في وضع يكون فيه الجنس مكوِناً صغيراً في علاقات الصداقة. غير ذلك، يصبح الجنس هاجساً.”

****

 

يبدو هنا أن ناجي لا يأمل أن يتحدث باسمه فقط، أو باسم شخصيته الخيالية، ولكنه يصوِّر حال قطاع كبير من الشباب المصري الذي يكافح في العاصمة من أجل البقاء. يعكس “باسم” حقيقة أنك لو نظرت إلى القاهرة سوف ترى “البشر يظهرون مثل نمل يبيع، يشتري، ويتبول بينما عجلة الإنتاج لا تتوقف أبدًا.” ولكنه بالوقوف على قدميه بين الزحام، يشعر وكأنه “فأر صغير تم الإيقاع به بين تروس عجلة الإنتاج”، غير قادر على الخروج من قفصه، ولا حتى إدراك نتائج تحركاته.

هذا الشعور بالتيه والاغتراب في المدينة والمجتمع عامة يظهر في أحيان كثيرة في النتاج الأدبي لناجي. فقد قُدِم في روايته السابقة “روجرز” (دار حروف، 2007)، والتي تحكي حياة بطل الرواية الشاب من خلال تقنية “الفلاش باك”، وتقدم أوصافاً للهلوسة التي يسببها الكحول والحشيش وكلمات ألبوم “بينك فلويد” (الحائط). نفس التيمة أيضًا موجودة في مدونته “وسع خيالك كأنك تلعب” والتي تحوي كتابات تنتمي لما يمكن تسميته “السيرة الروائية”. في هذه المدونة، يختار ناجي “إبليس” اسمًا متخيّلًا ليغري القراء بإطلاق خيالهم ومشاركته عالماً مأهولاً بسفن الفضاء والحيتان؛ حيث يجلس بجوار تروتسكي، وجوني كاش، والراقصة الشرقية المصرية سامية جمال. إنه أمر مثير للسخرية بشكل ما أن يختار ناجي هذا الاسم عنوانًا لمدونته، ثم يُدفَع به إلى المحكمة لأن عمله يُقرأ بوصفه تسجيلًا لحقائق.

يستمر محامي بعبلكي في عرض حجّته:

إنه من المهم للمحكمة أن تنظروا سعادتكم في الكتاب إجمالًا؛ بدلًا من اقتطاف عبارتين من العمل كنموذج دلالي أو شاهد على أنه قد يكون عملًا مضرّا بالأخلاق والآداب العامة.

يبدو هذا تكرارًا لمطالبة سانت أوغسطين المكتوبة قبل ما يزيد عن 1600 عام فيما يتعلق بالكتب المقدسة، والتي تشير إلى أن المعاني التي توجد في جزء من النص يجب أن تكون متسقة مع المعنى الموجود في باقي الأجزاء. بعبارة أخرى، يجب أن تُطَبق التأويلات والتفسيرات على النص بأكمله. وبالمثل، ناقش ريني ويليك وأوستين وارين في عملهما “نظرية الأدب” (1949)، فكرة أن العمل الأدبي “منظومة بالغة التعقيد تتشكل من طبقات عدة ذات معانٍ وعلاقات متعددة” تحتاج إلى تحليلها كُليًا.

بقراءة الرواية بأكملها، يفهم المرء أنها ليست عملًا عن الجنس وكيفية تناول المخدرات. “استخدام الحياة” هي عمل مركب من الرواية العادية والرواية المصورة، فهي تحتوي على النص السردي لناجي ورسوم لرسام الكاريكاتير المصري أيمن الزرقاني. فالقصة تدور حول شخصتين أساسيتين: باسم والقاهرة. باسم في صحبة مجموعة من أصدقائه، وجمعية “مخططو المدن السرية”، والتي تهدف إلى إحداث تحول راديكالي في معمار العاصمة. ومن بين أعدائه، نجد الكاتب ما بعد الحداثي إيهاب حسن، والساحر بابريكا، وهو الأمر الذي يُظهِر مرة أخرى أن الرواية تُقدِم شيئًا من السريالية، وفي الوقت نفسه تشتبك مع ثقافة “البوب”.

محامي بعلبكي يلخِّص دفاعه بقوله:

يجب أيضًا أن يُناقش مبدأ الآداب والأخلاق العامة، كما أن التشريع اللبناني لا يُعطي تعريفًا تفصيليًا لـ “الأخلاق العامة”، علاوة على أنها شيء قابل للتغيير والتطور تبعًا للزمن. فهي عرضة للتغيير والتطور تبعًا لزمن الكاتب.

خلال العام الماضي، قامت الحكومة المصرية باعتقالات وملاحقات قضائية لمثليين وشيعة وراقصات شرقيات تحت مسمى الدفاع عن “الأخلاق العامة”. وفي مناقشة أجرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في أغسطس 2015، أشار الباحث عمرو عزت إلى أن المناقشات التي تلي إلقاء القبض على هؤلاء المواطنين، تستخدم تعبير “الأخلاق العامة” استخدامًا متكررًا ولكن في الوقت نفسه بطريقة غامضة جدًا. حالة ناجي، مرة أخرى، تجلب الانتباه إلى المعنى المتناقض لهذه العبارة، في وقت تملأ المشاهد الجنسية والمواد الإباحية الإنترنت والتليفزيون، نجد أنه- في بعض الأوقات- ليس مسموحًا أن يوجد شيء مثل الذي تحدثنا عنه في عمل روائي. يمكن القول أن أي اتهام يشير إلى الأخلاق العامة يجب أن يُعرّف ما المقصود بـ”الأخلاقي” في الوقت الذي يعتدي فيه المسؤولون في الدولة على حقوق الإنسان الأساسية، ويضطهدون صحفيين، وفنانين، ونشطاء سياسيين، بل عموم جيل الشباب الذي قاد انتفاضة يناير 2011.

بُرِئت بعلبكي في النهاية، وعادت الكتب المصادرة إلى أصحابها، في ختام مسيرة قضائية شاقة. مع ذلك، اختفت بعلبكي تقريبًا من المشهد الأدبي، وفضّلت أن تمارس الصحافة بدلًا من ذلك. في الوقت الحالي، يُظهِر مؤلفون وكُتاب في العديد من الدول دعمهم لناجي عن طريق ما يكتبونه على مدوناتهم، وفيس بوك الخاص بهم، وفي مقالاتهم، كما يشاركون في الكتابة على هاشتاج #لماذا_يذهب_الكلام_للمحكمة لدعم الروائي أحمد ناجي.

لتفاصيل وقفة التضامن مع ناجي ومتابعة تطورات جلسة الأمس وباقي المحاكمة تابع صفحة “ضد محاكمة الخيال” https://www.facebook.com/EgyptArtOnTrial/ وعلى تويتر @EgyptArtOnTrial

 

اعلان
 
 
تيريسا بيبِه 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن