تدوينة: “محكمة” من جديد
 
 

كنت حذرة وأنا أدخل أكاديمية الشرطة في شرق القاهرة، والتي تبعث في نفسي قدرًا أكبر من الصرامة والجدية مقارنة بمعهد أمناء طرة، عندما يتحولان مؤقتًا إلى قاعات لممارسة “العدل”. لا أدري ما مصدر قلقي على وجه الدقة.

داخل القاعة، وحين اقتربت من القفص، رفع أحد رجال الشرطة حاجبه محذرًا من الاقتراب. جلست في الناحية المقابلة من المقعد إثباتًا لحسن النية والسمع والطاعة. اختلست نظرة جانبية تجاه القفص ولاحظت وجود أشخاص بداخله٬ قد يكون أحدهم من جئت لأراه.

انتصرت بعد قليل على خوفي من الحراس وبدأت في ملاحظة القفص عن قرب. بعض المتهمين كانوا يرتدون ملابس السجن برتقالية اللون والتي شعرت معها أن أحكام الإعدام مُثبتة على جباههم. انقبض قلبي.

دققت النظر أكثر، فتمكنت من تمييز محمد البلتاجي، القيادي الإخواني البارز، يرتدي الملابس البرتقالية. كان هناك آخرون مثل صبحي صالح، عضو البرلمان الإسلامي السابق، وسعد الكتاتني، رئيس البرلمان الإخواني السابق.

داخل القفص كان هناك شخص ما يتحدث بحماس مع جمهور منبهر من أعضاء الإخوان المسلمين، لا يوقف انبهارهم انتظار بعضهم لتنفيذ أحكام الإعدام، أو قضاء العمر في السجن. من شعره ووقفته وإشاراته وحماسه المتقد٬ حتى وهو داخل قفص المحكمة٬ تعرفت على علاء عبد الفتاح، السجين الذي جئت من أجله. تصورت أنه يحاضرهم عن خطايا فترة حكمهم القصيرة.

كانت تلك أول مرة أرى فيها علاء في ملابس السجن الزرقاء. تجاهل ثقلها كان صعبًا، بالرغم من محاولتي لتجاهل اللون البرتقالي المجاور له. عندما كان لا يزال غير محكوم عليه٬ كان زيه الأبيض يحمل بعض الأمل الطفيف. كان ذلك قبل أن يُحكم عليه بالسجن خمس سنوات تحت دعوى أنه اعتدى على ضابط شرطة.

جئت إلى المحكمة أقرب إلى صديقة منّي إلى صحفية، لأقف بجانبه وأحاول -بصعوبة شديدة- أن أقنعه أنه ليس وحده. الحقيقة أن وحدته لا تقتصر على زنزانته فحسب، لكنه في ذلك القفص بالذات كان وحيدًا للغاية.

متهمو القضية الـ 24 -الموجودون في القفص وغير الموجودين- يغطون أطياف السياسة المصرية، أو ما تبقى منها. تراوحوا بين أهم قيادات الإخوان المسلمين بمن فيهم الرئيس الأسبق محمد مرسي، والبلتاجي، والكتاتني، وصالح. هناك دعاة إسلاميون من أمثال وجدي غنيم وعبد الرحمن القرضاوي، وقيادي الجماعة الإسلامية عاصم عبد الماجد. هناك أيضًا الليبرالي المعتدل، أستاذ العلوم السياسية، عمرو حمزاوي، وبعض من تبقوا من الحركة الناصرية مثل عبد الحليم قنديل. هناك أيضًا المدافع عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، وعن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، وحبيب الملايين، المذيع التليفزيوني توفيق عكاشة. وكان هناك علاء. التقوا في هذا الجمع غير المألوف استنادًا إلى اتهام القضاة لهم بإهانتهم بشكل أو آخر.

لم يكن من الطبيعي أن أتعرف على علاء دون الاقتراب ومحاولة تبادل الحديث معه عبر القفص الزجاجي. استجمعت كل شجاعتي وتوجهت نحو رجل الشرطة في الملابس المدنية الذي سبق أن هددني بحاجبه المرفوع وطلبت الإذن أن أسلم على علاء في القفص. فأشار إليّ بالموافقة -غالبًا ليكافئني على تهذبي في الاعتراف بسلطته-  لكنه أضاف: “بسرعة”. ذهبت إلى هناك، وطرقت على الزجاج لأجذب انتباه علاء وأقاطع محاضرته الحماسية. تمكنت من مبادلته الحديث لدقيقتين. كان قد تابع أخبارنا في “مدى مصر” بما فيها محنة إلقاء القبض على حسام بهجت، وسألني ضاحكَا: متى سيلقى القبض عليّ لألحق به. سألني أيضًا عن الأصدقاء والأحباء. حاولت أن أخبره أن آخرين في طريقهم إلى المحكمة لكنه لم يسمعني في قفصه الزجاجي.

تجمع عدد من المصورين أمام القفص، وقد شجعتهم تلك المقابلة القصيرة، في محاولة لالتقاط صور المحتجزين خلف الحاجز الزجاجي. ابتسم البلتاجي ابتسامات عدة لا تختلف كثيرًا عن تلك المرسومة على الوجوه أثناء التقاط صور لهم على شاطئ البحر. ثم اقترب فريق السجن الإخواني بأكمله من بعضه البعض في صورة جماعية رافعين علامة رابعة. أما علاء فجلس في جانب من القفص، ينظر إليهم. كان وحيدًا.

انتفض ضابط الشرطة، وحاجبه المرفوع على الدوام، وطلب منا جميعًا العودة إلى مقاعدنا، وطرد جميع المصورين من القاعة.

في تلك اللحظة وصل مرسي إلى القاعة، مرتديَا الملابس البرتقالية هو الآخر. أُدخل قفصًا منفصلًا في الخلف، بالكاد قابل للملاحظة، حتى إزاء فضولنا -نحن، من كان يحكمنا يومًا- بدا غائبًا وغير مهتم.

بدأت الجلسة بصرخة حاجب المحكمة الشهيرة. وطلب المحامي محمد سليم العوا -موكلًا عن مرسي والقاضي محمود الخضيري- تأجيل الجلسة حتى يتمكن الأخير من حضورها بشخصه؛ حيث إنه أجرى منذ أيام جراحة قلب مفتوح. كما كان للعوا بعض الاعتراضات الإجرائية وجهها إلى القاضي أحمد عبد الوهاب شحاتة، ما كان بمثابة تذكير مؤقت بأننا في موقف يحاول أن يُشَبه نفسه بالعدالة وقد اختصرت إلى مجموعة من الإجراءات اضطر المتهمون ومحاموهم للعمل جاهدين لضمان توفيرها.

ثم تحدث المحامي خالد علي، موكلًا عن علاء، فكرر مطلب العوا الثاني من المحكمة بتوفير صورة ضوئية من تحقيقات النيابة في القضية إضافة إلى الأقراص المدمجة التي تحمل الأدلة ضد المتهمين. استغرق الجدال حوالي 10 دقائق بين محامين يطالبون بصورة من الوثائق والقاضي يحاول إقناعهم أن الاطلاع على الوثائق كافٍ. وفي النهاية وبعد جدال طويل وافق القاضي وأمر بتوفير نسخة واحدة يتشارك فيها كل المحامين، إضافة إلى نسخة من “فلاشة” تتضمن أدلة الإدانة، والتي سوف يوفرها خبير، جيء به خصيصًا من تليفزيون الدولة، ليقدم الدعم الفني لنسخها.

في وقت ما خلال الجلسة شاهدنا فيديو يفترض أنه يدين البلتاجي -أيام عضويته في البرلمان- يوجه نقدًا شديدًا للمحكمة التي حكمت بالبراءة على حسني مبارك، يقول فيه: “لن نقبل هذا الظلم، حتى إن متنا شهداء”. لم أمنع نفسي من النظر إليه في القفص، مرتديًا ملابسه البرتقالية، يشاهد نفسه في الشاشة المقابلة لقفصه٬ في ما بدا كعملية استرجاع للماضي بجوار الحاضر أمام وعينا، الذي بات نائمًا.

دخلت إلى قاعة المحكمة مجموعة من خمس سيدات، ما أثار اضطراب وفضول الحرس العاجزين عن فهم السبب الذي يجعل من هذه الزمرة الصاخبة مصدرًا لإزعاج عملية شبه العدالة الجارية.

أعلنت تلك المجموعة عن نفسها بشكل أكثر وضوحًا عندما رُفعت الجلسة: أخرجن قطعة من الحلوى (كَب كيك) وشمعة وأقلام سميكة سوداء. استعرن ورقًا أبيض من بعض الصحفيين المتململين في قاعة المحكمة وكتبن عليها “بكره هندهن الهوا دوكو” شعار علاء الشهير على تويتر. ثم استخدمن أقراطهن لرسم قلب عبر ثقب ورقة بيضاء وكتبن بداخله “التنين البمبي“، الاسم الذي طالما أطلقناه على علاء لسنوات. لقد كان اليوم هو عيد ميلاده الرابع والثلاثون، وقد جئن للاحتفال به، بطريقتهن، في محكمة جنايات القاهرة.

جاء ضابط من رتبة أعلى، يرتدي هذه المرة الملابس الرسمية، ووقف أمامهن، وقد بدا عليه الارتباك جراء حيويتهن الجريئة. وبكل ثقة وضعت إحداهن، مي، الشمعة فوق قطعة الحلوى ونظرت إليه قائلة: “سوف أشعل الشمعة الآن”. أشعلتها وغنّى الجميع بعقولهم ومن عمق قلوبهم أغنية عيد الميلاد لعلاء. لم يحجب الحاجز الزجاجي ضحكته واستمتاعه بالجمع الصغير والاحتفال بعيده. بدأ يسأل عن أخبار الجميع وانهمر فيضان من الرسائل على الورق الأبيض ترفعه المجموعة له ليقرأ ما كُتب عليه٬ أخبار عن كلاب وقطط تم استئناسها٬ وأحباء رحلوا وقصات شعر جديدة. لم يبق هناك ورق أبيض للصحفيين ليكتبوا عليه شيئًا. أما الضابط فقد ظل جامدًا لا يتحرك، مثل التمثال.

مرة أخرى، صرخ حاجب الجلسة، ليعلن عن عودة القاضي الذي أعلن تأجيل “العدالة” ليوم 8 ديسمبر.

اعلان
 
 
لينا عطاالله 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن