نوبل للآداب 2015 والسؤال الوجودي: ما الأدب؟ ما الفن؟

يرى الروائي البيروفي الحاصل على نوبل للآداب عام 2010 ماريو فارجاس يوسا، أن قراءتنا للأدب ليست رفاهية، فالأمر أشبه بضرورة للإبقاء على جزء حتمي من طبيعتنا الإنسانية. لكنه يرى أيضًا أن الكتابات الأدبية هذه الأيام، وبخاصة الأعمال الروائية، ربما تكون ذات بناء جيد ولغة جميلة، لكنها خاوية، لا تقول شيئًا تقريبًا. أما الروائي الأمريكي فيليب روث -الأعظم ممن هم على قيد الحياة في رأي كثيرين والذي فاز بكل جائزة أدبية ممكنة والمرشح على قوائم نوبل منذ أكثر من عشر سنوات – فيرى الرواية كنوع أدبي آخذ في الاحتضار. روث الذي توقف عن الكتابة منذ بضع سنوات يعتقد أن هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم يخلق -وسيخلق- أشكالًا مختلفة للتعبير عن نفسه بشكل أكثر ملاءمة لطبيعته الآنية.

يتقاطع رأيا كل من يوسا وروث بشكل لافت وإن بدا غير مباشر. يلاحظ يوسا أيضًا أن “الصورة” أصبحت هي الغالبة على الكلمة والأكثر تأثيرًا في شبكات التواصل الاجتماعي. فأمام هذا التدفق الهائل للصور ومقاطع الفيديو، يتراجع تأثير الكلمة شيئًا فشيئًا، ومعه تتراجع القراءة الورقية التي يرى يوسا أنها أفضل بكثير من القراءة الإلكترونية؛ لأنها تعطيك مساحة للتفاعل الحسي مع الأفكار.

يبدو إذن أن أشكالاً مختلفة من الكتابة يزداد احتياجها لعنصر الصورة لتلفت الانتباه إليها. فالكتابة هنا ليست قائمة بحد ذاتها؛ وفي الوقت نفسه، ليست عديمة القيمة. ولكنها أصبحت عاملًا مساعدًا لإثراء الصورة، أو أنها تستخدم الصورة لإثرائها. وبعيدًا عن القصص المصورة “الكوميكس”، والتي هي عالم بحد ذاته وربما موضوع لمقال منفصل ، تبدو الكتابة الصحفية سواء التوثيقية أو الاستقصائية، هي أكثر أشكال الكتابة المعاصرة ارتباطًا بالصورة. ربما يحمل هذا التمهيد في أحد مضامينه التقاطًا لتراجع الأدب بأشكاله الكلاسيكية (رواية– قصة– مسرح– شعر) أمام الكتابة الصحفية (المرتبطة بالصورة)؛ وبخاصة تلك المكتوبة بروح سردية وإن لم يكن سردًا تخييلياً.

 

“تُمنح جائزة نوبل للآداب هذا العام لـ سفيتلانا ألكسيفيتش من أجل أعمالها متعددة الأصوات التي مثلت معلماً للشجاعة والمعاناة”.

باستثناء كلمة “الآداب” كنت سأظن أن هذه الكلمات ليست سوى نص إعلان الفائز بجائزة نوبل للسلام. فالحديث عن الشجاعة والمعاناة، وهما قيمتان إنسانيتان ليس هناك ارتباط حتمي بينهما من جانب وبين الجودة الأدبية من آخر، بالإضافة إلى عدم وجود ولو تعليق أدبي بسيط على أعمال الفائزة بأهم جائزة أدبية في العالم، يجعلنا نفكر من جديد في حجم التقاطع بين الأدب والسياسة. خصوصًا إن كانت الكاتبت الذي مُنِحت الجائزة- وبنظرة مجرّدة- معارضة سياسية في بلد متقارب مع سياسات روسيا؛ كاتبة ترفض علناً سياسات بوتين.

ليست هذه المرة الأولى بالتأكيد التي يفوز فيها كاتب -وليس أديب- بنوبل للآداب. فقد فاز بها من قبل مؤرخون وفلاسفة، بل وسياسيون. فالفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل والذي حصل على الجائزة، يمكن أن نجد في كتابته حول الفلسفة وعلوم الاجتماع والتنظير الرياضي نثراً يمتلك إيقاعاً موسيقياً خاصاً، كما أنه تميز بلمحة من السخرية والذكاء من الصعب أن تجدها في كتابات معاصريه. غير أنه في الكثير من المرات التي منحت فيها الجائزة لغير الأدباء، وجدنا أن السياسة لعبت دورًا لا يمكن تجاهله، وبخاصة عندما فاز بها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل وسط دهشة أبرز أدباء العالم في عصره.

فالصحفية الاستقصائية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش ترى أنها تمارس هذا الشكل من الكتابة الاستقصائية في أعمالها- التي لا تتجاوز الأربعة- بعد أن جرّبت  عدة طرق مختلفة من الكتابة، ولأنها وجدت أن الوثيقة أصدق من الفن الذي هو بطبيعته كاذب.

نعم، الفن بطبيعته كاذب؛ ولم يُرَد من الفن يومًا أن يكون صادقًا؛ إن كان الصدق هو أن يصبح نسخة مطابقة للواقع. الفن رؤية شديدة الذاتية تحاول طرح تساؤلات كبرى أو هامشية، ولكن ما يميز هذه التساؤلات أنها تملأ كيان الفنان فتجبره على أن ينضح بها من خلال طريقته الإبداعية، معبرًا عما يتملّك كيانه من أرق.

الكثير من التحليلات العربية والغربية وجدت أن ألكسيفيتش استحقت الجائزة. فنوع الكتابة الذي تمارسه والذي ينتمي لما يسمى “السرد غير التخييلي” هو كتابة نثرية تستند إلى وقائع وأحداث حقيقية، وتستخدم تعدد أصوات الرواة لتبني ما يُسمى “الرواية الجماعية”، كما قالت ألكسييفيتش وهي تحكي عن تأثرها بالأديب الروسي “أليس آداموفيتش”، الذي قرأت في أعماله لأول مرة هذا النوع من الكتابة. في الوقت الذي قالت فيه سارة دانيوس السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية- في حوار معها بالإنجليزية، بعد أن أعلنت بيان الفوز بالسويدية وألحقته بترجمة فرنسية وأخرى ألمانية، أن الفائزة ابتكرت نوعاً جديداً من الكتابة الأدبية!

أمامنا نوع لا يبدو أنه منتم أو متقاطعٌ أو متأثرٌ إلى حد كبير بالأشكال الكلاسيكية المعروفة للكتابة الأدبية. وكأن لجنة نوبل واستناداً إلى طبيعة اختيارها للفائز هذا العام أرادت أن تعبر عن رسالة واحدة بمضامين عدة من بينها:

– لا انفصال للأدب عن السياسة. أو بشكل أكثر دقة، لا انفصال للكتابة عن السياسة، وبخاصة مع هؤلاء الذين يعيشون في مجتمعات غير ديموقراطية وتعاني تقييدًا للحريات، فهؤلاء لا يمثلون كتاباتهم فقط، لكنهم أيضًا يمثلون أصواتاً لبلدانهم التي تطمح للحرية تحت حكم غير ديموقراطي.

– الترحيب والانفتاح على أشكال أخرى من الكتابة، وبخاصة أنه يُنظر إلى الكتابة السردية غير التخييلية على أنها أقل شأناً من الكتابة الأدبية التخييلية بأشكالها المعروفة. كما أنه ولوقت طويل اتُهِمت لجنة نوبل بأنها صاحبة مزاج كلاسيكي، وظهر ذلك في الكثير من اختياراتها الأخيرة.

ربما تكون اللجنة هذا العام، وبشكل به مفارقة لافتة، قد استمعت أخيرًا لما قاله يوسا وروث، وكأنها تحاول أن تنفي عن نفسها واختياراتها شبهة “التحجر”. لكنها محاولة تجاهلت في طريقها أدباء أفنوا عمرهم فعلياً في تشييد مشاريع أدبية مهولة؛ وهم لا يزالون على قيد الحياة ويستحقون الجائزة من دون شك. أدباء لا اختلاف على قيمة كتاباتهم الأدبية وتيماتها المتفرِّدة. أدباء يجعلوننا نتشبث، مع كل مرة نقرأ لهم، بالأمل في ألا يضيع الأدب أو يتلاشى. جعلوني- على وجه التحديد- أفكر في قدرة أعمالهم على البقاء، بل الخلود، كما حدث مع الموسيقى الباروكية التي لا تزال الحفلات تقام من أجل أن تُعزف في كل قاعات الأوبرا ببلدان العالم على اختلافها.

لا مفر إذن من التأكيد على أحقية أسماء مثل: الأمريكيين فيليب روث، وتوماس بينشون، والإسباني خوان جويتسيلو، والتشيكي ميلان كونديرا، واللبناني/الفرنسي أمين معلوف، والليبي إبراهيم الكوني، في الفوز بالجائزة الأعرق في تاريخ الأدب.

ولكن من جديد، نحن أمام فائزة يجدها البعض صاحبة شكل جديد في الكتابة الأدبية، ويجدها البعض الآخر صاحبة موقف سياسي معارض أسهم بشكل مباشر في فوزها، أما هي نفسها فترى الوثيقة- جوهر كتاباتها- في موضع يعلو على الفن.

وأمام آراء شديدة التباين بين مؤيد سعيد لفوزها من ناحية، ورافض لهذا الفوز لدرجة جعلت البعض يرى أن فوزها أقرب لأن يكون إهانة لمعنى الجائزة من ناحية أخرى، لا يمكننا تجاهل التفكير من جديد في التساؤل الوجودي للفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر حول ماهية الأدب، بل حول ماهية الفن.

تكتب أليكسيفيتش أعمالاً تظهر فيها أصوات المنسيين، الذين عانوا دون أن نعرف عنهم شيئًا، ولكنها لا تكتب عنهم برمزية ولا تخييل ولا تجريب، بل تترك لهم الساحة ليتحدثوا عن تجاربهم في حرب أفغانستان، أو مأساة تشيرنوبل، أو في الحرب العالمية الثانية، دون تدخل منها، ساعية للصدق، لتخلق من ذلك ما يمكن تسميته “الكورال الملحمي”.

فهل يبدو هذا كافياً للفوز بنوبل للآداب؟

 

اعلان
 
 
محمود حسني 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن