لماذا لن تجعلك مشاهدة المسلسلات غنيًا: عن تاريخ التليفزيون في مصر
 
 

لدى مصر تاريخ طويل جدًا في الفن. فقد ساهم دور الإنتاج الثقافي في هذا المجتمع وما يحظى به من احترام في تشكيل شخصية مصر على مدار مئاتإن لم يكن آلافالسنين. ونظرًا للمخزون الثقافي الهائل الذي يعيش عليه المصريون، اتسمت ردود أفعالهم على الأحداث التي تغير العالم، مثل الأديان الجديدة والهجرات الجماعية والاستعمار، بصبغة مميزة. لكن على مدار العقود القليلة الماضية، عجز تفاخر المسؤولين والسياسيين الأجوف بثقافة مصر وتاريخها عن إخفاء التراجع الواضح في صناعة الثقافة.

كان المجتمع لفترة طويلة جدًا مجتمعًا إقطاعيًا لا يحظى فيه أحد بمتعة تجربة أشياء جديدة في الحياة، وما تبعث عليه من تحفيز للمشاعر وإثارة، سوى فئة قليلة للغاية- من غير المصريين في معظم الأحيان- في حين كان من المتوقع من الأغلبية المضي في حياتهم وتحملها كما هي.

بعد وقت قصير جدًا من أول عرض للأخوين لوميير في أوروبا، وكان ذلك في عام 1897، بدأ عرض الأفلام في مطاعم وقصور الأغنياء بالقاهرة والإسكندرية. كان الأمر في البداية يقتصر على إمتاع النخبة فقط، وكان اهتمام الصناعة بمصر وقتها في الأساس يقوم على كونها موقع تصوير غرائبي وساحر. لكن سرعان ما تحول هذا البلد إلى واحدة من أكبر أسواق إنتاج الأفلام وارتياد السينما، حيث أنتجت تجارب سينمائية في وقت مبكر للغاية معنية بظروف معيشة الناس وما يطمحون إليه من آمال.

تعد تجربة أماكن مثل مصر أو الهند أو حتى الولايات المتحدة في صناعة الأفلام والصناعة الترفيهية مثالًا جيدًا على قدرة الفن على إتاحة فرصة للحراك الاجتماعي. وإن احتمال صعود نجم سينمائي من قاع المجتمع إلى قمة الثروة والسلطة ملهم لكثير من الناس، ويجعل الأفلام قادرة على إمدادنا بالأمل. فإن قدرة مجموعة من الناس على الجلوس لمدة ساعتين على مقاعد مماثلة في غرفة مظلمة ليتشاركوا مشاعرهم تجاه ما يحدث على الشاشة أمامهم، بغض النظر عن طبقاتهم أو أديانهم أو خلفياتهم، قد تساعد في تقليل حجم الفجوة الناجمة عن اختلافاتهم بعض الشيء.

ونظرًا لقدرة الترفيه على در الأرباح خطر للبعض بطبيعة الحال فكرة الاستثمار في أحلام الناس لتحقيق أحلامهم الشخصية.

أراد جمال عبد الناصر التغيير لمصر، وكان وجود جهاز تليفزيون في كل بيت طريقة فعالة جدًا لإقناع الناس بالتغيير. ساعد الأمريكيون عبد الناصر في البث لأول مرة في عام 1960، بعد أن تأجل أكثر من مرة بسبب العدوان الثلاثي الذي هاجم فيه مصر كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل (وهو اسم ملحمي مثير ويصلح عنوانًا لمسلسل تلفزيوني- العالم كله كان يشهد تحولًا في ذلك الوقت، ليس في مصر فقط، ولقد تغيرت أسماء الحروب تماشيًا مع ذلك).

انتشرت قوى التليفزيون القادرة على الإثارة والتحفيز في جميع أنحاء مصر. أراد الجميع اقتناء جهاز تليفزيون، وتحول الترفيه ليأخذ شكلًا جديدًا. قبل ذلك كان هناك تاريخ طويل من المسرحيات الإذاعية، سبقه تاريخ أطول من العروض المسرحية. وكان ثروت أباظة قد كتب نحو 40 مسرحية إذاعية قبل أن تسنح له فرصة كتابة أول مسلسل تليفزيوني مصري على الإطلاق، وهو مسلسل “هارب من الأيام” (1962).

وبالنظر إلى شكل تطور المسلسلات التليفزيونية منذ ذلك الوقت سوف تتضح لنا ردود أفعال المصريين على التغيرات التي شهدها العالم وما زال يشهدها، كما سوف يكشف لنا ذلك أيضًا الكثير عن طبيعة تلك التغيرات والاتجاه الذي تقودنا إليه.

الستينيات

كانت الستينيات مرحلة هامة في تاريخ التليفزيون المصري ومصر بشكل عام. كانت بداية عصر جديد تمتع فيه خطاب ثورة 1952 بما شاء من قوة- داخليًا- لتشكيل المجتمع بالشكل الذي رأته صالحًا. كما مَهَد المشهد الثقافي الرفيع في مصر، وقدرة الإنتاج الإعلامي، الطريق للناصرية عبر المنطقة العربية. وبالرغم من عدم ملائمة التليفزيون كاختراع رأسمالي في حد ذاته للبيئة الاشتراكية التي كان عبد الناصر يسعى إلى خلقها، إلا أن المصريين أحبوا التليفزيون، حتى عبد الناصر نفسه نقل خطاباته الاشتراكية إليه بدلًا من استخدام الإذاعة كوسيط أقل رأسمالية.

كانت المسلسلات الدرامية في ذلك الوقت منصبة على أدب العقود السابقة بشكل كبير، خاصة الروايات. ولقد ساهمت أعمال كتاب تلك المرحلة مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس، وأعمال كتاب آخرين تأثروا بهم، في تشكيل مواضيع وشخصيات تلك المسلسلات. كان أسلوب الإخراج والتمثيل مسرحيًا وثابتا. وعلى الأرجح كانت هذه بداية أكثر حيلة إخراجية تميل إلى الكيتش على الإطلاق، الحيلة التي أصبحت محل سخرية في كثير من الأحيانٍ منذ ذلك الوقت: حيث نجد الممثل والممثلة أثناء المواجهة يتبادلان الحديث بينما كل منهما يدير ظهره إلى الآخر. كان التصور المفترض لدور المسلسلات الدرامية أن يكون مفرطًا في الرمزية والقدرية والوعظ الأخلاقي.

A shot from the first Egyptian Tv series ever..jpg

A shot from the first Egyptian Tv series ever..jpg

أتيحت للمشهد المسرحي المليء بالحيوية فجأة فرص أفضل في التلفزيون. وبدلًا من أن يكون ذلك تطورًا إيجابيًا، تدفقت المواهب المجهزة للمسرح إلى التليفزيون، وأثر ذلك على شخصيته في تلك السنوات المبكرة ولعدة سنوات لاحقة. أصبح الذوق المسرحي وأساليب السرد المسرحية بالفعل السمة السائدة في تراث المسلسلات الدارمية المصرية، ويمكن القول إنها ما زالت سائدة. ولو كان هناك قدر أكبر من المال في البلد بشكل عام، لما اضطر الناس إلى تغيير مسارهم المهني سعيًا وراء المال.

رغم قلة الانفتاح على الثقافات العالمية لم يكن من الممكن تجنب المنافسة من قبل عارضات الأزياء الأمريكيات في برامج الترفيه التليفزيوني. ومع ذلك كان معنى المغامرة والإثارة والغرائبية لدى المشاهد المصري شديدة الاختلاف عن ما يجد المشاهد الأمريكي متعته به. فقد ذكّر ذلك النوع من المغامرات المصريين بأوجاع الاستعمار التي لم تلتئم بعد.

السبعينيات

خلال تلك الحقبة تلاشت معضلة الفن مقابل المال، واتجهت مصر نحو الغرب دون أن تكون هناك خطة واضحة من أي نوع. كان تاريخ البلد في صناعة الأفلام يمر بأسوأ مراحله. خنقت الحرب والأزمة الاقتصادية الصناعة الثقافية. وخفت صوت الاتحاد السوفيتي، وبدأ العديد من المصريين الإيمان بقوة المال.

عكست المسلسلات الدرامية التي أنتجت خلال تلك المرحلة أبرز الصراعات الثقافية. ويمكننا القول إن ذلك الجيل من صناع الثقافة انقسم إلى فريقين: الناصريين ومعارضي الناصرية.

الناصريون- مثل أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ، اللذين ستتضح أهميتهما لاحقًا في هذا المقال- كانوا في بداية مشوارهما المهني، المشوار الذي اكتسب معظم أهميته من التركيز على المنظور الطبقي والفروق بين الفقراء والأغنياء والتحولات الاجتماعية. ولقد تغذى ذلك النوع من الفنانين على قيم عبد الناصر ووعوده، الأمر الذي تلاشى مع وصولهم مرحلة النضوج.

Adel Imam starring in Flying kid's dreams after years of humiliating side kicks.jpg

Adel Imam starring in Flying kid’s dreams after years of humiliating side kicks.jpg

وعلى الناحية الأخرى قام عادل إمام، أكبر وأشهر وأنجح نجم كوميدي على الإطلاق في مصر، ببطولة أنجح مسلسلاته التلفزيونية “أحلام الفتى الطائر” (1978). حظي المسلسل بشعبية هائلة، حيث كان يروي قصة هارب يحاول الطيران بغنيمة كبيرة. ومنه ارتقى إمام، بسترته الجينز وسجائره المارلبورو، إلى النجومية الساحقة بعد عدة سنوات من الأدوار الثانوية المهينة والمهمشة، تعلم فيها تدريجيًا (وكان ذلك خلال الحقبة الناصرية أيضًا) أن ذلك البلد لا يحترم سوى المظاهر.

في عام 1979 جاء مسلسل “الأيام” ليروي قصة حياة الأديب الشهير طه حسين، ولقد جاء النجاح الذي حققه المسلسل ليذكّر البعض أن فن العالم الخيالي والاستهلاكي، الذي يقدمه إمام، لن يصمد طويلًا في وجه قدر البؤس السائد وقتها.

الثمانينيات

انكشف جوف وعود الدولة ومدى ضعف قدرتها على تنفيذ خططها شيئًا فشيء. ولقد أدى ما خلفه ذلك من فراغ في مشهد الصناعة الثقافية الرسمي إلى حث المزيد المواهب على البحث عن مصادر إلهام جديدة وطرق لتنفيذ الأفكار دون انتظار إرشاد أو مساعدة من الحكومة. ومع ذلك ظل التليفزيون الحكومي أكبر ممول للمسلسلات الدرامية، ما كان يعني قيودًا أكثر ونقودًا أقل، وفسادًا أكثر بالطبع.

ترسخت عادة مشاهدة المسلسلات الدرامية في الثمانينيات حيث بدأ تقليد الإنتاج الضخم في موسم شهر رمضان يأخذ لنفسه مسارًا أكثر جدية. قدم أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ الجزء الأول من أهم عمل مشترك لهما، “ليالي الحلمية” عام 1987، بعد سلسلة من الأعمال الناجحة مهدت الطريق لاحتكارهما المرتبة الأولى في المسلسلات التليفزيونية.

Osama Anwar Okasha and Ismael Abdul Hafez teaming up.jpeg

Osama Anwar Okasha and Ismael Abdul Hafez teaming up.

“ليالي الحلمية” هو مسلسل شاهده أي شخص عاصر تلك الحقبة أو سمع عنه أو على الأقل سمع موسيقى مقدمة المسلسل. يروي المسلسل قصة التغيرات الاجتماعية في مصر منذ بداية القرن العشرين وحتى فترة التسعينيات من خلال بانوراما تشريحية لشخصيات تعيش في حارة الحلمية القديمة. ولقد حرصت تلك الرواية- ذات السرد ملحمي الطابع عن التغيرات الطبقية والسياسية والثقافية- على ربط نفسها قدر الإمكان بالأدب المصري الرفيع، ومع ذلك نجحت في كسب جماهيرية واسعة ولقيت إعجاب من جميع فئات المشاهدين.

صُممت كل الشخصيات التي مثلّها طاقم عمل مهول الحجم- من حيث النص وبصريًا- بطريقة رمزية للغاية، بحيث يمثل كل منها “نموذج” مصري، غزل جميعها من خلال حبكات درامية صغيرة لتعكس الصراع أو الحلم. كان المسلسل بوابة للعديد من الممثلين إلى نجاح مشوارهم المهني في الدراما التليفزيونية، منهم يحيى الفخراني وصلاح السعدني وممدوح عبد العليم وآثار الحكيم وهشام سليم.

بُذل مجهود ضخم في المسلسل لنقل جماليات كل حقبة تاريخية مر عليها. ولجأوا إلى حلول رديئة- بالطبع- في ما يخص مواقع التصوير والأزياء وما إلى ذلك، لكنها بالنسبة لتلك الفترة والموارد المتاحة وقتها كانت حدثًا جللا. فقد كانت الصناعة في ذلك الحين عالقة بين حطام الخطط الاشتراكية لصناعة الإعلام، وحاولت مسلسلات مثل “ليالي الحلمية” و”الشهد والدموع” (1985) جاهدة أن تخرج بمنتج ما رغم كل هذه التحديات.

Spy stuff.jpg

Spy stuff

إذا كنتم تتسائلون عما فعله عادل إمام بعد تحقيقه الحلم الأمريكي من خلال “الفتى الطائر”، فإن مرحلة الثمانينيات كانت الفترة التي تعلم فيها “اللعب مع الكبار”. في عام 1980 قام ببطولة مسلسل “دموع في عيون وقحة”، العمل الذي مجّد فيه البطولات العسكرية في إطار مغامرات “شغل الجاسوسية” على إسرائيل. وبعده بسبع سنوات قدم محمود عبد العزيز قصة أخرى مماثلة في “رأفت الهجان”. ومن الواضح أن التمويل لم يكن مشكلة في مثل هذه المسلسلات. لماذا يا ترى؟

More spy stuff.jpg

More spy stuff.

التسعينيات

بدأ احتكار التليفزيون الحكومي يذوي مع ضخ المستثمرين أموالًا في الإنتاج، وخاصة رجال الأعمال من الخليج وبعض المصريين المغامرين. زاد الإنتاج أضعافًا، وبدأ الناس يشتكون للمرة الأولى من عدد المسلسلات الرمضانية الزائد عن اللازم. فقد زاد عدد الأشخاص الذين يملكون أطباق استقبال القمر الصناعي، وتغيرت عادات المشاهدة مع انفتاحنا على عدد أكبر وأكثر تنوعًا من المسلسلات، العربية منها والعالمية. لقي العديد من المسلسلات الأمريكية الناجحة رواجًا كبيرًا، مثل “الجريء والجميلات” (The Bold and the Beautiful) و”نوتس لاندنج” (Knots Landing) و”هيركيوليز” (Hercules). ودفع هذا الانفتاح القائمين على صناعة المسلسلات التلفزيونية المصرية إلى اتخاذ توجه جديد، دعمته الأموال التي ضخت حديثًا في الصناعة.

بدأت العلاقة الحالية بين صناعة الإعلانات والمسلسلات الدرامية تتشكل. فمواضيع المسلسلات الدرامية ركزت بشكل أكبر على مصالح المستثمر أو حتى الممول. وهناك مسلسلات قديمة أعيد عرضها أو ولّدت أجزاءً جديدة بنفس طاقم العمل والقصص، لكنها كانت في منافسة مع الكتاب والمخرجين الجدد بأفكارهم ووقائعهم الجديدة.

في عام 1995 قام نور الشريف ببطولة مسلسله الشهير “لن أعيش في جلباب أبي”، وقدم فيه قصة عن رجل فقير يشق طريقه من قاع تجارة الخردة بالقاهرة إلى أن يتربع على عرش رجال الأعمال. لقيت القصة، المأخوذة عن رواية لعبد القدوس، استقبالًا حافلًا في وقت أراد فيه الكثيرون تصديق إمكانية الاغتناء، حتى وإن كان عن طريق تجارة الخردة.

Abla Kamel in _I won't live in my father's galabiya_.jpg

Abla Kamel in I Won’t Live in my Father’s Galabiya

كان جدل مجتمعي واسع قد انتشر في الثمانينيات حول التحولات الاجتماعية المفاجئة التي حدثت نتيجة السياسات الليبرالية الجديدة. ونجد أفلامًا مثل “البيه البواب” (1981) و”البيضة والحجر” (1990) تروي قصة الطبقة العصامية حديثة الثراء وثقافة المال التي خلقتها. ولطالما صوّر الشخص الذي يتسلق السلم الاجتماعي لينحشر بين البرجوازية الأصيلة بشكل سلبي، لكن ذلك تغير في أعمال مثل “لن أعيش في جلباب أبي”، أحب الناس كفاح عبد الغفور البرعي ليترقى اجتماعيًا حتى تمكن من إلحاق ابنه بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

وجد المسلسل نفسه بالطبع في مواجهة أسئلة معقدة حول أصالة الطبقة والانتماء، رد عليها بأجوبة مباشرة. لكن تلك الأجوبة إشكالية بعض الشيء. فإن فتى الجامعة الأمريكية انتهت به الحال إلى الوقوع في حب فتاة أمريكية تأتي إلى مصر لتعيش مع عائلته، ثم تضيق تدريجيًا بمدى تخلفهم. عكس ذلك تدهور الحال بمصر في علاقتها الإشكالية بالحداثة والسلطة و”الآخر” بشكل عام، ممثلًا في أمريكا في تلك الحالة.

إن خطة مصر لتحقيق العدالة الاجتماعية أو سبيلها إلى الحراك الاجتماعي لا تتعديان في بساطتهما ما قدمه هذا المسلسل: إذا لم يكن معك مال فهذا خطؤك- اذهب لتبيع النفايات وكن بذكاء البرعي. وهي خطة سهل انهيارها بسرعة شديدة.

الألفية الجديدة

كان كل شيء يخرج عن نطاق السيطرة. فقد تقدمت السن بحسني مبارك، وكذلك ابنه جمال مبارك. زاد نفوذ رجال الأعمال وفترت قوى الجيش شيئًا فشيء، لم يكن أحد يعرف ماذا يدور في البلد. انتشر الإسلام السياسي سريعًا، مستغلًا إهمال الحكومة لجموع الشعب الفقير وما تجلبه من صداع. أصبح الترفيه ضرورة أكثر من أي وقت مضى، لأن الناس أصبحوا حقًا لا يعرفون من هم وما هي القيم التي قد تساعدهم في فهم ما يحدث من حولهم. صارت قنوات التليفزيون مفتوحة طوال اليوم، حيث كانت الحكومة في حاجة إلى كل مليم قد يدفعه أحد للضرائب، لكي تتمكن من استجماع قواها بأي شكل.

ظهرت مسلسلات المواقف المضحكة (Sitcoms) للمرة الأولى وبدت كالفرخة السحرية التي تبيض ذهبًا. وبفضل قصرها ومواضيعها البسيطة لم تكن تتطلب مجهودًا كبيرًا في المتابعة، ما جعلها أسهل في الهضم وسط سباقات الأكل الرمضانية المفجعة. صارت الإعلانات تحتل معظم أوقات البث الثمينة، وسريعًا ما تطورت جماليات التصوير أيضًا. أخذ المزيد من الفنانين الموهوبين والعاملين بالصناعة في التنقل ذهابًا وإيابًا بين الإعلانات وإنتاج الأغاني المصورة والسينما والتليفزيون، ومعظمهم لم يدرس السينما أو أي شيء له علاقة بالثقافة. كان الناتج مشتتًا بعض الشيء، لكنه تحرر من المفهوم الرسمي لعصور ما قبل التاريخ عن التعليم الفني.

نجح مسلسل “تامر وشوقية” (2006) نجاحًا مدويًا. يروي المسلسل قصة محامٍ من عائلة شديدة الثراء يقع في حب معلمة فقيرة من حي شعبي، والمواقف المضحكة التي تحدث بين العائلتين شديدتي الاختلاف. كان الصراع الطبقي قد وصل إلى مرحلة أصبح فيها التباين بين أشكال المعيشة في مصر هزليًا، وقدم هذا العمل نوعًا جديدًا من المسلسلات كما طرح مجموعة جديدة من النجوم في السوق.

The Egyptian version of Dharma and Greg was simply poor and rich.jpg

The Egyptian version of Dharma and Greg was simply about poor and rich.

ومن بين التحالفات المالية الكبرى التي كانت وراء هذا المسلسل اسمان مهمان للغاية: شريف عرفة- المخرج السينمائي الشهير الذي قدم أعمالًا منذ الثمانينيات وأخرج بعضًا من أهم أفلام عادل إمام، بالإضافة إلى بعض الفيديوهات الدعائية للحزب الوطني- وطارق نور- رائد صناعة الإعلانات في مصر وواحد من أهم المؤثرين عليها. كانت وكالة نور للإعلانات مسؤولة عن أول حملة انتخابية لمبارك في عام 2005، وقد حاولت فيها تقديم نسخة أكثر حداثة وديمقراطية و”روشنة” لمبارك كرئيس يترشح للرئاسة إلى أشخاص يعلمون جميعهم أنه سوف يكون الرئيس (هناك صورة له يظهر فيها مرتديًا قميص فقط دون سترة). بات من الواضح جدًا أن النظام استسلم إلى الرأسمالية وسلم رقبته إلى رجال الأعمال. لكن على عكس ما ظنه كثيرون في ذلك الوقت، لم يكن المسار الذي اتخذته مصر وطريقة توزيع السلطة في أيدي مبارك مطلقا.

وفي عام 2006 غزت الدراما التركية السوق بمسلسل “نور”، وهو نسخة مدبلجة بالعربية من مسلسل “Gümüş”. كشف “نور” عن الكبت الجنسي في مصر. فالأشخاص في المسلسل كانوا يبدون بمظهر جيد مثل كل شيء آخر به. وهكذا وجدت الطبقة المكونة حديثًا من عائلات المديرين، والتي تعيش في المدن العمرانية الجديدة، في تلك المسلسلات ما يلهمهم أسلوب حياة براقًا أكثر من أسلوب حياة آبائهم. أما بالنسبة للأشخاص الكثيرين المحرومين من المال والأمل، فقد أصابتهم مشاهدة كل تلك السيارات والمنازل الفاخرة ومظاهر البذخ دون شيء غيرها بالخدر الذهني. الأشخاص الذين شاهدوا المسلسل- ويمكنك التعرف عليهم فور رؤيتهم- يقولون إنه مكتوب بعناية وإن الدراما تأسر المشاهد بشكل كبير، إذًا هناك ذلك الجانب أيضًا. ويظهر المسلسل استعراضًا للقوة التركية الناعمة على المنطقة العربية التي تلائم تطلعاتها الاقتصادية. غريب كيف يشبه ذلك مصر في الستينيات.

Turkish people with Arabic names and Syrian accents and fancy kitchens.jpg

Turkish people with Arabic names, Syrian accents and fancy kitchens.

كما شهدت الألفية الجديدة ظهور نمط جديد يقدم كل عام مسلسلًا عن بلطجي يعيش في منطقة عشوائية ويمارس البلطجة. وسط مئات المسلسلات في كل رمضان، يصبح التقليب بين القنوات لرؤية هذا الكولاج من القصور الفخمة والعشوائيات والسيارات الفخمة والمطابخ الفخمة ومعارك البلطجية بالسيوف والشعر الفخم أمرًا مربكا. إن حل مشاكل المجتمع ليس مسؤولية المسلسلات التليفزيونية، لكن المسلسلات التي تزداد فيها المطابخ بذخًا والسيوف حجمًا قد تكون مؤشرًا لوجود بعض الاضطرابات. وما حدث في مصر منذ عام 2011 يشير بشكل كبير إلى الحاجة إلى توازن أفضل بين بذخ المطابخ وأحجام السيوف.

لطالما كانت المسلسلات الدرامية تدور حول ما يشغل بال الناس، وسوف تظل كذلك. وبعد كتابة هذا التاريخ القصير لأشهر المسلسلات الدرامية المصرية اتضح لي أن “الطبقة” من المواضيع التي طالما انشغلنا بها. والحقيقة أن كل المسلسلات الناجحة تقريبًا منذ الستينيات كانت تدور حول موضوع الفقر والغنى والفجوة الهائلة بينهما، وهذه دلالة لا يمكن تجاهلها بسهولة.

تعيش مصر في الوقت الراهن مرحلة يستخدم فيها الإعلام بكثافة للتأثير على طريقة تفكير الناس، كما يحدث في جميع ديمقراطيات العالم! فالصورة الملحمية للرئيس عبد الفتاح السيسي صُنعت بشكل كبير من خلال التليفزيون، بمساعدة الكثير من الفنانين والمفكرين ورجال الأعمال وكل شخص أراد التخلص من الإخوان المسلمين. لكن المشهد تغير الآن، وبدأ الناس يهتمون بمصالحهم الشخصية. وليس تقسيم الحصص بين إمبراطورية الجيش المالية ورجال الأعمال صفقة سهلة.

في شهر مايو الماضي، وخلال الانتخابات الرئاسية، توقع الجميع رؤية السيرك المعتاد من المظاهرات المبالغة في إظهار الدعم للسيسي والتي بدأت في 30 يونيو 2013. لكن معظم مقدمي البرامج تقريبًا أظهروا في دهاء وبتزامن مدروس خيبة أملهم في نتائج الاستفتاء، مع التأكيد على ثقتهم التامة بالسيسي. مدت الانتخابات ليوم آخر للتأكد من ذهاب عدد من الناس للتصويت للسيسي أكثر ممن صوتوا لمرسي. ولقد فسر كثيرون ذلك على أنها قرصة أذن صغيرة من الإعلام ليذكره بمدى تأثيره على الناس. ومقارنة بالآلة الإعلامية الكلاسيكية التابعة للدولة والتي لم يعد أحد يصدقها، يبدو أن قنوات الإعلام الخاصة تريد أن تقول للدولة إنها يجب أن تدير الأعمال التجارية كما ينبغي لعمل تجاري أن يدار- وهي معركة رأسمالية أخرى مع التكتيكات العسكرية القديمة التي تصارع من أجل البقاء.

Al gamaaa - Tv series about the muslim brotherhood - Be scared.jpg

Al-Gamaa.

في عام 2010 أذيع مسلسل “الجماعة” التليفزيوني. ولقد بذل هذا المسلسل قصارى جهده لشيطنة الإخوان، وحظي بدعم مادي وسياسي ولوجيستي حتى من الحكومة. وبعدها بشهور قليلة خلع مبارك! لذلك راقبوا عن كثب السياسات التي سوف تطرحها المسلسلات التليفزيونية في شهر رمضان القادم، فقد تعطينا فكرة عمن سوف يغادر المشهد قريبًا.

اعلان
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن