خوض المعركة الخاسرة
 
 

“فلنتفق قبل أن أبدأ على شيء: إذا قاطعتني سأفقد تسلسل أفكاري وأعيد من البداية، لذلك من الأسهل أن تدعني أكمل، اتفقنا؟”.

بهذا التفاوض غير المألوف مع القاضي بدأت المحامية ياسمين حسام الدين- ٢٦ عامًا- مرافعتها في قضية “مجلس الشورى” في فبراير الماضي. كان القاضي قد قاطع كل محاميي الدفاع الذين ترافعوا قبلها، محاولًا دفعهم لإنهاء المرافعات او اختصارها، بترديده سؤال “وعليه؟”، كما اعترض عند مهاجمتهم الشرطة في مرافعاتهم.

كان المحامون يمثلون ٢١ متهمًا تم الحكم عليهم لاحقاً بالسجن من ٣ إلى ٥ سنوات، بتهم التظاهر دون تصريح والتعدي على ضابط.

أدت حسام الدين مرافعتها بصوت رنان، وبكثير من الشغف، ما سمح لها بالتحدث لمدة ٢٠ دقيقة، بينما تستمع هيئة المحكمة في صمت. كان هذا مشهدًا من قاعة محكمة أصبحت مسرحًا للنضال السياسي فضلًا عن العمل القانوني.

“ألسنا جميعاً نعلم أن وزارة الداخلية بلطجية؟ لقد أصبحت هذه معلومة عامة، ولذلك انتفت عنها تهمة السب والقذف”، كان هذا هو دفاع حسام الدين القانوني- المشبع بالسياسة في الوقت نفسه- ضد التهمة الموجهة لموكليها لهتافهم أثناء التظاهرة “الداخلية بلطجية”.

حسام الدين، مثل آخرين، تمثل متهمين في قضايا تتحكم بها السياسة أكثر مما يحكمها القانون، كما أشارت منظمات حقوقية.

زاد هذا النوع من المحاكمات في قضايا ضد متظاهرين ونشطاء، والتي اعتبرها المدافعون عن حقوق الإنسان محاكمات مغلوطة انتشرت مع تضاؤل مساحة النشاط السياسي في مصر على مدار السنتين الماضيتين، في سياق حرب النظام الحالي مع الإخوان المسلمين واعتبار أي تحرك سياسي معارض بمثابة تهديد أمني.

بالرغم من إيمان الكثير أن الأحكام في هذه القضايا تحددها الاعتبارات السياسية وليست مجريات المحاكمة؛ فإن عددًا من محاميي حقوق الإنسان يصرون على الاستمرار في محاربة التضييق الحالي من خلال الطريق القانوني.

الرد على السياسة بالقانون

كانت الأشهر القليلة الماضية منهكة بالنسبة للمحامي محمود بلال، الذي مثل متهمين في ثلاث قضايا متزامنة متعلقة بالتظاهر: الاتحادية، ومجلس الوزراء، ومجلس الشورى. تم الحكم على المتهمين في القضايا الثلاث بأحكام تتراوح بين سنتين و٢٥ سنة.

على الرغم من تسييس هذه القضايا؛ فإن بلال يرى أن استراتيجية الدفاع يجب أن تعتمد على إعادة التركيز على الشق القانوني. ويؤكد أن الحكم في هذه القضايا بالقانون سيؤدي لا محالة إلى البراءة؛ نظرًا للعيوب القانونية الجسيمة بها.

يقول بلال: “يمكن القول إنني وزملائي قد فقدنا الثقة تمامًا في القضاء، ولكننا على الأقل نسهم في كشف التجاوزات في هذه القضايا ونُصَعِّب على القضاة إصدار أحكام سياسية. ويبقى لدينا أمل ١٪ أن نجد قاضيًا يحكم بالقانون”.

يزيد اتفاق بلال السياسي مع موكليه من شعوره بالمسؤولية تجاههم، إلا أنه يترك تحيزه خارج المحكمة.

يفسر: “في المحكمة، أبتسم في وجه ضباط قد يطلقون عليّ النار إذا تقابلنا في مظاهرة”.

نظرًا للتعنت الذي يواجهوه من قبل مؤسسات الدولة، يحرص المحامون في القضايا المماثلة على أن يكونوا في كامل الاستعداد أمام المحكمة. بالإضافة للتحضير الطبيعي الذي تتطلبه أية قضية، يقول بلال إن مذاكرة التغييرات التشريعية المستمرة وابتكار دفوع قانونية لمواجهتها يشغل الكثير من وقت ومجهود المحامين. وبدلًا من الملف الذي كان يستخدمه، أصبح بلال الآن يحمل صندوقًا من الأوراق في كل جلسة محاكمة ليكون مستعدًا لأي طلب.

ولكن الدفاع يتطرق أحيانًا لتفاصيل خارج النطاق القانوني لمحاربة منطق المحكمة بالسلاح نفسه. في قضية “مجلس الشورى”، استشهد المحامي الحقوقي خالد علي بتفاصيل من حياة المتهمين ليثبت أنهم شباب يمارسون أعمالًا مختلفة، وليسوا بلطجية كما ادّعت النيابة.

كما عمل “علي” أيضًا، على تحدي قانون التظاهر من خلال دعوى رفعها أمام المحكمة الدستورية العليا، وهي الدعوى التي لا تزال تنظر حتى الآن.

 تتحدث حسام، عن التوازن المطلوب خلال العمل داخل منظومة ومحاربتها في الوقت نفسه: “نحن نحرجهم بالقانون، نواجههم بدفوع لا يستطيعون الرد عليها. مدى التصعيد يعتمد على من هو الطرف الآخر وما المكاسب الممكنة. الأهم هو عدم الاستسلام مهما كان ميزان القوة ضدنا، نحن لا نقابل أي قرار بالسكوت، يجب أن يكون لنا دائمًا رد فعل”.

طريق مليء بالمصاعب

منذ تأسيسها في ٢٠٠٨ بالتزامن مع الدعوة لإضراب “٦ إبريل”، تتكفل “جبهة الدفاع عن متظاهري مصر” بالقضايا المتعلقة بالحراك في الشارع. يقول بلال إن الجبهة مكونة حاليًا من حوالي ٩٠ محاميًا ناشطًا بأنحاء الجمهورية، يواجهون صعوبة حتى في رصد عدد قضايا التظاهر المتزايدة، بينما كان ٢٠ عضوًا قادرين على القيام بالمهمة في ٢٠٠٨. أصدر موقع “ويكي ثورة”- وهو موقع مستقل معني بتوثيق أحداث الثورة- إحصاءً في نهاية ٢٠١٤، يعلن فيه القبض على ٤٠ ألف شخص منذ تولي النظام الحالي في يونيو ٢٠١٣.

عدد القضايا ليس هو التحدي الوحيد؛ حيث يعتبر بلال أن التعامل مع النظام القضائي بمصر هو محنة في حد ذاته.

يقول بلال: “كل خطوة من المفترض أن تكون طبيعية تستلزم مشادات وشجار، هذا مجهود فوق مجهود العمل نفسه”.

ويضيف، أن المحامين يضطرون أثناء تعاملهم مع القضاء والنيابة والشرطة أن يتحدوا التجاوزات في إجراءات القبض والمحاكمة، وليس فقط القوانين المستخدمة ضد موكليهم.

يوضح بلال:” بدلاً من التركيز على مرافعتي، أجد نفسي مضطرًا أن أستنفد وقتي أمام القاضي في المطالبة بالسماح لأهالي المتهمين بالدخول، أو إدخال الطعام للمتهمين”.

يعاني المحامون أيضًا منع أوراق القضية والمعلومات المتعلقة بها عنهم. وقد أصبح من الطبيعي أن ينفصل المحامون في صباح أيام الجلسات، ويذهب كل منهم إلى محكمة مختلفة، في محاولة لمعرفة مكان الجلسة، كما يحكي بلال.

في بعض الأحيان، يتم تحديد جلسات في أيام متقاربة لا تسمح للمحامين بالوقت الكافي للتحضير، وفي أحيان أخرى يتم تأجيل الجلسات لعدة أشهر، وهو ما يراه بلال تكتيكًا لإرهاق المتهمين والمجموعة الصغيرة من المحامين الذين يتكفلون بقضاياهم.

يعاني المحامون أيضًا امتناع المحكمة عن التجاوب مع مطالبهم الأساسية، مثل الاستماع لشهود الدفاع. كانت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، قد أصدرت بيانًا في شهر مارس، يحذر من تعديل مقترح بالقانون الجنائي يعطي القضاة السلطة المطلقة في قبول أو رفض الشهود، محذرين أن هذه الخطوة تهدد العدالة.

بخلاف ذلك، انعقد الكثير من المحاكمات منذ بداية ٢٠١٤، خصوصًا المتعلقة بالتظاهر، في معهد أمناء الشرطة بطرة، وفي أكاديمية الشرطة بالتجمع الخامس. إقامة المحاكمات في مقار شرطية يجلب طبقة أخرى من المتاعب بالنسبة للمتهمين ومحاميهم.

يقول المحامون، إن المتهمين وعائلاتهم والإعلام يواجهون صعوبات في دخول أكاديمية الشرطة، بالرغم من كون جلسات المحاكم علنية كقاعدة عامة. بعد منع الناشط علاء عبد الفتاح وآخرين من دخول معهد أمناء الشرطة في طرة، لحضور جلسة قضية “مجلس الشورى” في يونيو ٢٠١٤، تم الحكم عليهم غيابيًا بالسجن ١٥ عامًا. يقول بلال إن القاضي كان يرد على طلبات الدفاع المتعلقة بظروف احتجاز المتهمين في قاعة المحكمة، قائلًا: إن هذه الأمور خارج سلطته؛ لكون المقر تابع للشرطة.

المشكلة لا تتوقف عند انعقاد المحاكمات بمقار شرطية. يقول “علي”: إنه أصبح من المعتاد أن تقوم النيابة باستجواب المتهمين داخل أقسام الشرطة. وهو يعتبر أن إعطاء وزارة الداخلية سلطة في هذه القضايا يمثل إشكالية؛ خاصة أن الشرطة خصم مباشر في الكثير منها.

بحسب بلال، تمكن المحامون في قضية “مجلس الوزراء” من الحصول على ثلث أوراق القضية فقط، برغم طلباتهم المتكررة للمحكمة الحصول على كامل أوراق القضية التي تم الحكم فيها على الناشط أحمد دومة و٢٢٩ آخرين بالسجن المؤبد في فبراير. خلال نظر القضية، حوّل القاضي خمسة من أعضاء فريق الدفاع السبعة للتحقيق بتهم إهانة المحكمة وتعطيل سير الجلسة. ردت نقابة المحامين بمقاطعة القضية ومنع جميع أعضائها من الحضور. وتم الحكم في غياب محام يمثل المتهمين مما يخالف القانون.

في إحدى جلسات هذه القضية، رد القاضي على طلب “علي” بضم محاضر تثبت تعدي قوات الأمن على المتظاهرين إلى أوراق القضية، متسائلًا ما إذا كان على القوات ألا تحرك ساكنًا حين يتم التعدي عليها. اتخذ “علي” رد القاضي دليلًا أن لديه عقيدة مسبقة بشأن القضية.

يقول “علي”: “أنا أتعامل مع كل ما يصدر من القاضي بحسب القانون، حتى يثبت لي أن القاضي قد كون عقيدة مسبقة وأظهرها، وفي هذه الحالة أضطر للانسحاب”.

اعلان
 
 
هبة عفيفي 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن