“الحارة”: كيف يعيش الـ 95% الآخرون؟
 
 

تجلس مجموعة من الطلاب في مقهى مصطنع، يضحكون، بينما يتحرك طالب آخر عمره 19 عامًا، يرتدي “جلابية” فوق حذائه الرياضي الـ Adidas، ويدفع عربة مليئة بزجاجات البيبسي أمامه، وهو ينادي بالعامية المصرية: “حاجة ساقعة! بيبّسْ! حاجة ساقعة!”.

المقهى المصطنع يتوسط شارع وهمي تم بناؤه من أجل المناسبة. يبدو الأمر ككواليس فيلم عربي قديم، لا شيء خلف الواجهات، تطل المحال على ميدان متسع، يمتلئ بعدد من الطلاب الذين يرتدون جلابيات وطرابيش.

جئت إلى الحرم الجديد للجامعة الأمريكية بالقاهرة كي أشاهد “الحارة“، وهو مشروع ينظمه نادي الفيلم والمسرح بالجامعة.

أعرف من صفحتهم على فيسبوك أنها “تجربة فريدة وغير مسبوقة من الشوارع المصرية الشعبية نحضرها لك”. يمكنني أن أجد “هوية مفقودة”، وأن أجد الفرصة “للتجول في حواري القاهرة وتجربة هذا الأسلوب من المعيشة”.

أتساءل: أية هوية؟ ومن الذي فقدها؟ يدفعني الفضول لأكتشف، اشتريت تذكرة بـ 150 جنيهًا، والتي تشمل قسيمة خصم قدره 500 جنيه على أي من منتجات Apple في محال iTouch.

بالطبع، وكما هو متوقع من نادي فيلم ومسرح، كانت تجهيزات المكان رائعة، تبدو ممولة بشكل جيد ومحترفة. أبعد من كونه مجرد زقاق، أقام النادي حيًا صغيرًا يمتلئ بالمحال والمراجيح وعربات الخضار. وفي أحد الجوانب أقيم مسرح كبير، مع نظام صوتي يذيع أغاني بوب من الخمسينيات.

كان الطلاب الشباب سعداء ليشرحوا التراث المفقود الذي يقدمونه.

يخبرني أحدهم: “هذه بطاطا”، وهو يشير إلى رجل يرتدي طربوشًا ويعمل على فرن فولاذي لامع غير قابل للصدأ أمامه.

“أوه، هذا كشري”، يشرح لي طالب آخر، “أكلة تراثية تمامًا”.

El 7ara.JPG

.

أتجول في أرجاء الميدان لأجد كل أنواع الأشياء “التراثية”، رجل يبيع البذور في سلة خوص، وحفل زفاف مصري (ليس كحفلات الزفاف في الفنادق كما أخبرني أحدهم)، وفرقة آلات نحاسية متجولة، وميكروباص قابع بلا عمل في أحد الجوانب. يظهر مشروع الحارة كخليط من أشياء عادية وأخرى رائعة، في أجواء كرنفالية.. لكن بأي غرض؟

يخبرني أحد المنظمين- اسمه عمرو، وعمره 18 عامًا، وهو من مدينة السادس من أكتوبر- أن “الفكرة خلف المشروع هي أن نظهر للناس كيف تبدو الحارة المصرية العادية حقًا. لا بد أن يعرف الناس عن هذه الأشياء، جزء من تاريخنا كمصريين. أناس كجمال عبدالناصر جاءوا من أماكن كهذه. كان مهمًا أن نراها، لذا جهزنا طريقة تمكن الناس من مشاهدتها”.

بسبب الطريقة التي تحدث بها عمرو، لم أكن متأكدًا ما إذا كانت “الحارة” تمثل مشهدًا من الماضي أم الحاضر. فباستثناء الطرابيش وفرقة آلات النفخ النحاسية، يتكون المشروع من عناصر نجدها حولنا طوال الوقت في القاهرة: مقاهي الشارع، وبائعو الطعمية والكشري، والميكروباص. أتساءل: ألم يكن ممكنًا لطلاب الجامعة الأمريكية أن يزوروا أحياء كهذه؟”.

“يمكنهم فعل هذا، لكنهم ليسوا مضطرين إليه”، يجيبني عمرو: “لقد أحضرناها إليهم في حرمهم الجامعي. الأمر هنا أكثر أمانًا بكثير. لن يوافق العديد من الأغنياء على أن تقوم بناتهم بزيارة أماكن كهذه في الحقيقة، الموضوع خطير جدًا. ربما لم ير حوالي نصف الحضور هنا مكانًا كهذا في الحياة الحقيقية على الإطلاق، الأمر أكثر أمانًا هنا”.

يفترض هذا ضمنيًا أن البيئة التي يعيش فيها معظم المصريين ليست آمنة، وهو افتراض أضاف وقودًا على نار الانتقادات الموجهة للمشروع على شبكات التواصل الاجتماعي، متهمين الطلاب بنزعة استشراق ذاتية ونظرة سياحية مبالغ فيها لأهل بلدهم، دون طرح أي أسئلة حول الطبقة وعدم المساواة.

لكن العديد من الحضور بدا ممتنًا للفرصة. يتجولون في بيئة شديدة النظافة، مبتهجين بمضغ حبات “اللب السوري” والتظاهر ببيع البصل الأخضر وهم يرتدون “العبايات”، بينما ينظر إليهم أفراد حرس الجامعة الأكبر سنًا بذهول واضح.

يدير مطعم الكشري- حيث يبلغ ثمن علبة كشري “تيك أواي” 20 جنيهًا- خمسة شباب يرتدون الطرابيش.

يوضح عمرو: “هذا هو غطاء الرأس التقليدي، ستجده في مطاعم الكشري”.

في الحارة، توجد الطرابيش في كل مكان. أقترب من أحد المنظمين الآخرين- محمد محسن، عمره 21 عامًا، طالب هندسة من القاهرة الجديدة- يرتدي جلابية مع وشاح من H&M كعمامة على رأسه لأسأله عن الأمر.

يجيبني: “الطربوش شيء من ماضينا، أمر تراثي جدًا”، يضيف: “يمكنك أن تجده في العديد من الأفلام القديمة على سبيل المثال”.

ما زلت أصارع كي أفهم ما إذا كانت “الحارة” مشهدًا من الماضي أم الحاضر؟ حين أخبرته عن تساؤلاتي، وجد هو الأمر مربكًا بالقدر نفسه. قبل أن يقول لي: “لا فرق”.

كان نصيب هذه الفكرة من الانتقاد كبيرًا أيضًا على منصات التدوين المصرية على الإنترنت؛ لأن فكرة تصوير جزء من المجتمع المصري في حالة أبدية ثابتة لا تتغير كانت جزءًا من المواقف الأوروبية تجاه “الشرق” في القرنين التاسع عشر والعشرين.

يسير خلفي شاب آخر على سيقان خشبية مرتديًا زي العم سام.

تسألني الشابة التي تصاحبه: “هل ترغب في التقاط صورة معه؟ ستجد أناسًا مثله يسيرون في أرجاء الحارة. هذا أمر تراثي جدًا”.

ضاعف هذا من حيرتي. لكن أحد الحضور أعاد لي اطمئناني. طالب فيزياء عمره 18 عامًا، اسمه يوسف، وهو من الجيزة.

يقول لي: “لا أظن أن هذا (المشروع) دقيق جدًا”. جاء يوسف إلى الفاعلية من باب الفضول، لكن شكوكه بدأت بعد وصوله. يقول: “بعض الأجزاء من هذا (المشروع) حقيقية، لكن معظمها مجرد خيالات. لا أقول إنني أتفق مع من يرون أن هذا أمر غير أخلاقي، أظن أن الفكرة جيدة، لكنها ليست دقيقة على الإطلاق”.

أسأله ما إذا كان المنظمون لا يعرفون كيف تبدو الحارة المصرية حقًا. يجيبني: “هذا محتمل، لكن من الممكن أيضًا أن يكونوا قد استبعدوا أجزاءً معينة منها؛ لأنهم يبتغون التركيز على الأجزاء التي يحبونها”.

أسأله: “لكن لماذا يقيمون مشروعًا كهذا من أساسه؟”. فيجيبني: “العديد من الناس لن يروا شيئًا كهذا في حياتهم. لديهم الفضول”.

كان المشهد سرياليًا: بنات يتظاهرن ببيع البصل من السلال، أسنانهن بيضاء منتظمة تلمع في كمال في عباياتهن المشتراة خصيصًا من أجل المناسبة، وصوت شباب مصري في العشرينات من عمره يتظاهر بكونه شباب مصري في العشرينات من عمره!!

في هذا كله فضول بريء: أبناء مجتمع شبّ في عزلة، في كومباوندات خاصة، يريدون أن يتعلموا شيئًا عن “هويتهم المفقودة”، والتي يشعرون بأنهم منزوعون بعيدًا عنها.

لكن الأمر ليس مقصورًا على هذا. مشروع الحارة كان مجازًا عما ظنه المنظمون مصر التراثية. الصورة التي رسموها كانت لمكان بلا زمن، بشخصيات أبدية لا تتغير. يُنظر إلى الثقافة التي يحاول المشروع تمثيلها على أنها تراثية ومصرية حقًا، لكنهم- بالتظاهر بأنهم جزء منها- أثبتوا لأنفسهم أنهم لم يكونوا أبدًا؛ لقد تخلوا عن كل ما هو عصري وخلقوا عالمًا لم يكن ممكنًا أبدًا أن ينتموا إليه.

قبل أن أرحل، سألت محمد عما إذا كان يظن أن العرض يمثل القاهرة حقًا. يجيبني: “نعم، أظن هذا. لقد ذهبت إلى أماكن عدة كهذه في القاهرة القديمة. وكانت متشابهة بنسبة 99%”.

أسأله عما إذا كانوا قد استبعدوا أجزاء معينة؟، “بالطبع”، يجيبني.. ويستدرك: “أظن أنك لو ذهبت إلى القاهرة القديمة، يمكنك أن تجد محال التكنولوجيا هناك. يمكنك تصليح جهاز الـ i Phone الخاص بك وأشياء أخرى كهذه. لكن هذه الأشياء ليست مما نهتم بعرضه هنا”.

لهذا فإنه عبر خلق عالم لا وجود له عن قصد، واستبعاد الأشياء التي يرونها عصرية ومألوفة، ربما لم يكن الهدف إعادة تعريف أنفسهم من داخل الحارة المصرية بقدر ما كان محاولة خلق عالم لإبعاد أنفسهم عنه، العالم الذي يرتدي فيه كل الناس جلابية وطربوش!

“حسنًا، كان لا بد من ارتداء الطرابيش”، يقول محمد، ويستكمل شارحًا: “بغير هذا، لم يكن ممكنًا أن تعرف الفارق، سيبدون مثلنا تمامًا”.

اعلان
 
 
إدموند باور 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن