صوت السجون
 
 

في العاشرة من هذا الصباح يجتمع أهالي السجناء في محيط سجن طرة. يأتون من أنحاء مختلفة في سيارات البيجو المعروفة  بالسبعة راكب. علامات التعب تبدو واضحة على وجوههم. يبدو المكان كوجه خفي للقاهرة لا يعرف عنه الكثيرون.

يجتمع بائعو البرتقال واليوسفي في محيط طرة أيضا حيث يصنعون اقتصادا موازيا للسجن فيستوقفهم بعض الأهالي للشراء قبيل الدخول لذويهم.

تحمل فتاة في حوالي العاشرة من العمر صينية ضخمة من الكنافة فوق رأسها. يحمل أخوها ذو القامة الأقصر حقيبة بلاستيكية من الألبسة يبدو حجمها أكبر من جسده. يلعبان سويا في انتظار الطابور الطويل وتفتيش الشرطة الذي لا ينتهي.

بعد حوالي ساعة يطلقون سراحنا في صالة كبيرة حيث ينتظر السجناء ذويهم بلهفة. كل سجين يأخذ أسرته في أحد اركان صالة الزيارة في السجن محاولين اقتناص لحظة من الخصوصية. تتصاعد أصوات أحاديث الأسر وتتجمع لتصبح صوتا مؤقتا للسجن. كثير من السجناء ملتحون وزوجاتهم منقبات.

يحق لثلاثة أفراد من أسرة السجين زيارته كل مرة، غير أنه إذا أتت أسرة بفردين يمكن لأخرى إدخال أربعة أفراد. حقوق وقوانين الزيارة غير واضحة. بعض الأسر تزور سجناءها مرة واحدة في الأسبوع والبعض الآخر مرتين. تتفاوت مدد الزيارة أيضا. لكن حقوق المحبوسين احتياطيا وزياراتهم تعد في الأغلب أحسن حالا قبل النطق بالحكم.

كان لمنال حسن ٤٥ دقيقة كل أسبوع مع زوجها الناشط السياسي علاء عبد الفتاح المسجون في ٢٨ نوفمبر الماضي. تقسم منال هذه الدقائق بإتقان لتنقل إليه أخبار العالم  بالخارج و تأخذ رأيه  في بعض الأمور الأسرية وشئون العمل وتوصل إليه سلامات فلان و فلان. يرد عليها علاء بشكل آلي ثم يأتي دوره ليطلب بعض الأشياء. تدون منال التفاصيل في مذكرتها حتي لا  تنسى: زوج من الجوارب – حذاء للرياضة – ملاءات فراش نظيفة والمنشفة الخضراء من البيت. تتبقى لهما دقيقة تبادل عاطفي سريعة ودقيقتان للعب مع ابنهما خالد البالغ من العمر عامين والذي أخذ يلهو في أرجاء السجن غير مكترث بظروف المكان.

في هذه الأثناء تحاول سناء أخت علاء إقناع ضابط التفتيش بإدخال مادة لصق لشقيقها بعد أن اعترض الحراس عليها لأسباب غير مفهومة. فعلاء يحب أن يعلق صور أصدقائه و أولادهم على حوائط زنزانته بالإضافة إلى الرسائل التي تصله في محاولة منه للإبقاء على قدر من التواصل مع العالم الخارجي.

بعد شهور داخل السجن يخرج علاء بينما يواصل القضاء محاكمته في قضية مخالفة قانون التظاهر. يخرج علاء تاركا وراءه الآلاف داخل السجون في قضايا شبيهة وأقارب يحاولون جاهدين أن يخففوا من وطأة الحبس على أبناءهم.

هشام عبد المنصف أحد هؤلاء، وقد تم القبض عليه في الخامس والعشرين من يناير الماضي من أمام المطعم الذي يعمل فيه كحارس أمن في وسط القاهرة. كانت مظاهرات الذكرى الثالثة للثورة ضد النظام الحالي والمؤسسة العسكرية تملأ المنطقة. هاجم أفراد قوات الأمن الملثمون هشام و تم تكتيفه وضربه و نقله إلى قسم شرطة الأزبكية. في قسم الشرطة كان هشام ينظر إلى ساعة الحائط قلقا أن يمر الوقت و تغلق خدمة المترو قبل أن يتمكن من العودة إلى منزله. لم يكن يعرف أن ثلاثة أشهر ستمر دون أن يعود إلى بيته وأنه سوف يحكم عليه بعامين من السجن في قضية لا يعلم الكثيرعنها.

في إحدى الزيارات قال هشام الذي يقطن سجن أبو زعبل الآن لأهله إنه سمع العساكر يقولون للضباط في سيارة الترحيلات إنهم قاموا بالقبض على أربعة أشخاص فقط. فقال لهم الضباط إن العدد لا يكفي لقضية تجمهر وإن عليهم القبض على المزيد. بعد شهر من ذلك اليوم، تم الحكم على هشام و معه ٦٨ آخرون بالحبس لمدة عامين في اتهامهم بالتجمهر و التظاهر والانتماء لجماعة إرهابية وحيازة أسلحة.

كان هشام بالنسبة لمن قبضوا عليه مجرد رقم ولكنه أيضاً ربما لا يمثل أكثر بكثير لمن هم خارج السجن والذين يسمعون أخبارا متناثرة عن الآلاف ممن وجدوا انفسهم خلف القضبان. فقط الأهالي كعائلة هشام يعرفون معنى أن يكون ابنهم مسجونا.

يقول أيمن حامد، زوج أخت هشام و صديق عمره متأثرا:”كل مرة أجلس فيها إلى مائدة الطعام أرى هشام أمامي وهو يقول لي ‘قاعد تاكل وسايبني في السجن؟”” 

والان وقد عرفوا أن أمام هشام وقت طويل في محبسه تزوره عائلته بقدر أقل من الأمل في خروجه قريبا ولكن بقدر أكبر من الخيرات لعلها تقربه قليلا من الحياة خارج السجن.
لا تقوم بهذا الدور إلا أسر السجناء. يقول رضا مرعي المحامي والباحث بقسم العدالة الجنائية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إن إحدى أهم مشاكل السجون المصرية هي وقوعها تحت سيطرة وزارة الداخلية.

ويضيف: “في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي كانت السجون جزء من وزارة الشئون الاجتماعية. في أماكن أخرى تكون السجون تحت سيطرة وزارة العدل. في حالتنا هذه يترك لوزارة الداخلية حرية أن تفعل ما تشاء دون رقابة.”

تحاول عائلة هشام في زيارة مدتها خمس عشرة دقيقة كل أسبوعين أن تسد فجوة افتراق عالميهما. ولكنها مهمة صعبة.

يقول أيمن: “نستأجر سيارة للذهاب لأبو زعبل في الرابعة صباحا ومعنا الطعام والشراب. نصل هناك في السادسة و النصف. نقف في طابور مع باقي الأسر لساعة تقريبا. ثم يقومون بتفتيشنا. ثم ننتظر في الداخل ثلاث ساعات. ثم نحصل على خمس عشرة دقيقة معه. قبل أن يبدأ حديثنا يصفر لنا الضباط لإعلان انتهاء الزيارة. تلك هي اللحظة الصعبة حيث نتبادل الوداع”.

وتضيف ميرفت عبد الوهاب والدة محمد صلاح والذي تم القبض عليه أيضاً في الخامس والعشرين من يناير والمحبوس حاليا في سجن أبو زعبل: “أثناء الزيارة تكون أصواتنا كالببغاوات فلا يسمع أحد الآخر.”

تزور ميرفت ابنها مرة واحدة في الأسبوع وتمضي يوم ما قبل الزيارة في تحضير طعام السجن له. لا يدخل له كل ما تحضره حيث يقرر الضباط مصادرة بعض الأطعمة بشكل عشوائي. وتقول: “ما يفعلوه بنا في السجن به الكثير من الإهانة.”

لم يقتصر إحساس ميرفت بالإهانة على زيارات السجن فقط. فقد اكتشفت مكان ابنها بعد أربعة ايام من القبض عليه والبحث المستميت عنه في أقسام الشرطة.

وتحكي مرفت: “قالوا لي إن الضباط يسمعون الأمهات أكثر ويعلمونهن بمكان احتجاز أبنائهن فذهبت لمعسكر أمن مركزي وجلست على الأرض أمام أحد الضباط و سألته ‘أين ابني؟ مش حامشي قبل ماعرف مكانه.”

كتبت ميرفت اسم ابنها على منديل ورق وقدمته للضابط. وبالفعل تعرفت على مكانه.

محمد البالغ من العمر ثمانية عشر عاما كان متواجدا بالقرب من مظاهرة في وسط القاهرة. هو ليس عضوا في جماعة الإخوان المسلمين ولكنه في حالة غضب من موت ثلاثة من زملائه في مظاهرات اشتبكت مع الشرطة.

رأته أمه بعد عشرة أيام من القبض عليه. تقول: “كان في حالة سكوت وعندما تحدث قليلا قال لنا أنه تعرض للضرب. هدده أحد الضباط بصعقه بالكهرباء إذا لم يعترف بانتمائه للإخوان. خاف محمد و قال للضابط إنه سيوقع على أي شيء يريد كتابته في المحضر”.

بهذا الاعتراف تم نقل محمد إلى سجن أبو زعبل حيث يشارك ستين سجينا في زنزانته ذات الأمتار الثلاثة. بعث هذا الاعتراف بوالدته يمينا و يسارا من مكتب النائب العام إلى عميد كليته حيث كانت تحاول إثبات حسن سلوكه وعدم وجود أي دليل على انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين.

في ليلة عيد الام كتب محمد رسالة لوالدته قائلا: “أمي العزيزة اليوم كان يجب أن أكون معك وأن أقدم لك هدية. ولكني في السجن. سامحيني. وادعي لي.”

الرسائل هي المساحة الوحيدة لبعض من الخصوصية والحميمية بين السجين وأسرته. ففي رسالة من هشام لزوجته كتب: “زوجتي العزيزة  أتمني أن تغفري لي أخطائي. إني أرى براء بقلبي حتى إذا لم أستطع رؤيته بعيني.”

كانت زوجة هشام قد أنجبت ابنهما البكر في الشهر الماضي واسمته براء تفاؤلا بإطلاق سراحه زوجها.

تقدم بعض الرسائل جزء من العوالم الخفية للسجن، وفي بعض الأحيان تقدم رواية بديلة للمنطق الدارج بأن “السجن للجدعان.”

في رسالة من علاء من محبسه لكاتبة هذا المقال كتب: “يمكنني فقط ان أحيا هنا كسجين. أن اكتب من محبسي بشكل مستمر وأن أدعي بأنني بذلك أصبحت حرا يعد جريمة. فسأكون حينئذ قد أضفت جدرانا وأسلاكا شائكة لمحبسي بنفسي. سأكون حينئذ مشاركا في أن يكون السجن أكثر قسوة للآلاف من الذين ذهبوا للتظاهر وجاءوا إلى السجن متخيلين أنهم سيمرون بتجربة جيدة ومبصرة كأبطال الصراع ثم يحطمهم السجن. يمكنني فقط أن أعيش حياة السجين المنكسرة وباعترافي بذلك وعدم قبولي لهذا الوضع أجد طريقا لنضالي.”

الرسائل أيضاً طريقة للتعبير والتواصل والتطلع للأمل بالنسبة لآلاء بخيت ذات التسعة عشر عام. فقد كتبت رسالة لوالدها البالغ واحدا وخمسين عاما من العمر وقالت له إن لديها أملا بالرغم من الحكم عليه بثلاثة أعوام من السجن.

قبض على والد آلاء وهو في سيارته مع ولديه بعد تركهما لمظاهرة في ديسمبر الماضي. تقول آلاء إنه بالرغم من كونه ملتحيا فإن والدها لا ينتمي للإخوان المسلمين. تم إطلاق سراح الولدين على ذمة القضية بينما لا تظل آلاء مسئولة عن متابعة وضع والدهم المسجون.

في إحدى زياراتها لسجن أبو زعبل وأثناء انتظارها لساعات طويلة سمعت صوت صراخ قادم من داخل السجن. وقالت: “رأيت أمهات يبكين عند علمهن بتعذيب أبنائهن في الداخل. كان أمرا محزنا للغاية.”

اعلان
 
 
لينا عطاالله 
 
 

دعمك هو الطريقة الوحيدة
لضمان استمرارية الصحافة
المستقلة والتقدمية

عشان من حقك الحصول على معلومات صحيحة، ومحتوى ذكي، ودقيق، وتغطية شاملة؛ انضم الآن لـ"برنامج عضوية مدى" وكن جزءًا من مجتمعنا وساعدنا نحافظ على استقلاليتنا التحريرية واستمراريتنا. اعرف اكتر

أشترك الآن